فى بداية التسعينات من القرن الماضى أقر مجلس شورى التنظيم الدولى للإخوان استراتيجية عامة، تتلخص فى أن الهدف الأسمى للجماعة هو تحقيق «اتحاد كونفيدرالى» يضم الدول العربية والإسلامية، على اعتبار أن عالم اليوم هو عالم الكيانات الكبيرة، فأنت لا تستطيع أن تفرض وجودك واحترام الآخرين لك، إلا إذا كنت تمتلك كياناً كبيراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولتحقيق هذا الهدف الكبير، لا بد من السعى أولاً: لتكوين أنظمة حكم ديمقراطية حقيقية فى الدول التى بها تنظيمات إخوانية، وثانياً: لا بد أن تسير هذه التنظيمات فى خطوط متوازية، فلا يسبق بعضها البعض الآخر، إذ معنى أن يكون هناك نظام حكم ديمقراطى للإخوان فى دولة ما، أن يواجه هذا النظام بحرب ضروس من نظم الحكم الأخرى، وثالثاً: لا بد من اعتماد منهج واحد، وهو أن يكون التغيير سلمياً (لا صلة له من قريب أو بعيد بأى عنف)، وأن تعلن تنظيمات الإخوان عن تبنيها لوسائل وآليات الديمقراطية، وفى مقدمتها: التعددية الحزبية والسياسية، التداول السلمى للسلطة، اعتبار الأمة مصدر السلطات، وأن صناديق الانتخابات الحرة والشفافة والنزيهة هى المعبرة بحق وصدق عن الإرادة الحرة للشعوب، وكان معلوماً لمجلس شورى التنظيم الدولى أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية سوف تقف حائلاً دون تحقيق ذلك، الأمر الذى يتطلب أن يكون السير على مهل وعلى مراحل تجنباً لأى عوائق أو عراقيل فى الطريق، سواء من قبل النظم الحاكمة، أو من قبل دول كبرى يهمها أن تظل التنظيمات الإخوانية تحت الإحكام والسيطرة، أو حتى من قبل القواعد الإخوانية ذاتها داخل تنظيماتها المحلية، والحقيقة أننا كثيراً ما نتكلم كلاماً كبيراً، ونحلم أحلاماً عظيمة، لكننا لا نترجم ذلك إلى عمل أو خطط وبرامج، فلم يكن هناك تنسيق بين تنظيمات الإخوان فى كل ما سبق، على سبيل المثال، لم تبذل قيادات الإخوان فى التنظيمات المختلفة -على الأقل فى مصر- جهداً مع قواعدها فيما يخص مسألة الديمقراطية وما يرتبط بها، أذكر جيداً أنى بعد أن قضيت مدة محكوميتى (٥ سنوات) فى سجن ملحق مزرعة طرة، ذهبت إلى مقر مكتب الإرشاد، كان ذلك فى أغسطس ٢٠٠٠، وقد وجدت المجتمعين من أعضاء المكتب ما زالوا يتحدثون عن موضوع إنشاء الحزب، وهل تتحول الجماعة كلها إلى حزب أم يكون الحزب فرعاً منها أو قسماً من أقسامها؟! قلت: وماذا بشأن قواعد الإخوان، هل ناقشتم الأمر معهم وانتهيتم إلى رؤية واضحة ومحددة؟ وهل هيأتم الرأى العام لقبول فكرة إنشاء حزب ابتداء؟ قالوا: لا، تطوع أحدهم فقال: إذن، ضع لنا أنت خطة لذلك، وقد شرعت فعلاً فى كتابة هذه الخطة وقبل أن أكملها ضبطت معى خلال لقاء ضم ٣٥ فرداً من الإخوان، وقُدمت لنيابة أمن الدولة العليا كأحد الأحراز فى مايو عام ٢٠٠١، وقد تمت مناقشتى فيها طويلاً، وقلت إننا -كإخوان- مصرون على أن نمارس العمل السياسى من خلال حزب قانونى، وبعد حبس احتياطى دام ١٥ شهراً، تم إخلاء سبيلى فى أواخر أغسطس عام ٢٠٠٢، وبالطبع لم أجد شيئاً تم بخصوص قضية الحزب، ناهينا عن بقية القضايا الأخرى، وقد خاض إخوان مصر انتخابات مجلس الشعب عام ٢٠٠٠، حيث فازوا بـ١٧ مقعداً، وهو رقم لم يصل إليه أى من أحزاب «المعارضة» آنذاك، الأمر الذى جعل الكثيرين من المحللين يتساءلون: هل آن الأوان كى ينشئ الإخوان حزباً؟! ولأن الإخوان أساتذة فى إضاعة الفرص، فقد مضت تلك التصريحات دون أن تأخذ حظها أو نصيبها من الاهتمام، على الأقل على مستوى الرأى العام، وجاءت الفرصة الثانية عندما خاض الإخوان انتخابات مجلس الشعب عام ٢٠٠٥، حيث فازوا بـ٨٨ مقعداً، إلا أن الإخوان كالعادة لم يتخذوا أى خطوة فى اتجاه تهيئة الرأى العام لفكرة إنشاء حزب لهم.
كانت ثورة ٢٥ يناير فرصة كبرى أمام إخوان مصر لإعداد خطة عمل تتضمن التنسيق والتعاون مع كافة أطراف الجماعة الوطنية للنهوض بمصر، على الأقل لتحقيق شعارات الثورة التى قامت من أجلها، وهى «العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية»، لكن الإخوان فى مصر غلبتهم انتهازيتهم واستعجلوا الطريق، ومن الأخطاء الكبيرة التى وقعوا فيها هى أنهم لم يفصلوا بين الحزب والجماعة، كما أنهم لم يسعوا لتقنين وضع الجماعة ذاتها، إلا متأخراً جداً، وكان تقنيناً صورياً وتشوبه عورات وثغرات كثيرة وكبيرة، كان همهم الأكبر أن يصلوا إلى السلطة بأى ثمن، ولو على حساب الثورة التى كلفت شعب مصر الكثير، لقد كانت التركة خربة إلى الدرجة التى لا ينفع معها إلا تضافر كل الجهود وتكاتف كل القوى، غير أن الإخوان أعطوا ظهورهم للجماعة الوطنية، تصوروا أنهم قادرون على تحمل التبعة بمفردهم، وهو ما يدل على الغياب الكامل لفقه الواقع لديهم، من ناحية أخرى، ظل الوضع الداخلى للإخوان على ضعفه وهوانه، من حيث منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية، فضلاً عن حالة الهياكل الإدارية والتنظيمية، لم تكن هناك قيادة مؤهلة للتعامل مع الظروف الجديدة التى انبثقت عن الثورة، ولا هم انتهزوا فرصة الحرية لتغيير اللائحة الداخلية للجماعة وإعادة ترتيب البيت من الداخل، وإجراء انتخابات جديدة بمعايير وأسس صحيحة وسليمة، لقد دخلوا معترك السياسة وهم على هذا الحال من التردى، كان عليهم أن يخوضوا انتخابات مجلس الشعب على أساس المشاركة لا المغالبة، كما وعدوا، لكنهم لم يفعلوا، وكان عليهم أيضاً ألا يرشحوا أحداً منهم للرئاسة، كما قالوا فى البداية، لكنهم للأسف، نكثوا فى عهودهم، كانوا يحفرون قبورهم بأيديهم، فلا رؤية، ولا خبرة، ولا تجربة، ولا مشاركة، وإنما تحرك سريع للاستحواذ على كل شىء، على الأقل، لم يلتزموا بما أقره مجلس شورى التنظيم الدولى فى بداية التسعينات من القرن الماضى من أن الاستعجال فى الوصول إلى السلطة قد يترتب عليه الدخول فى إشكالات مع أنظمة الحكم العربية، وهو ما كان، لذا، بعد أن قامت ثورة ٣٠ يونيو وتمت الإطاحة بحكمهم فى ٣ يوليو، كان لأنظمة الحكم العربية موقف آخر.