أخطر ما فى المشهد المصرى تعامل كل الأطراف مع بعضها وفقاً لمنهج واحد يقوم على تبادل الاتهامات بالعمالة والخيانة والمشاركة فى المؤامرة، وفى المقابل السخرية من الإنجازات والتربص بها والتقليل من شأنها، وما يجمع الفريقين معاً هو افتراض سوء النية والكذب والتضليل، وسرعة توجيه الاتهام للآخر والتمسك به ورفض التراجع عنه حتى ولو أثبت الواقع عكسه.
فى هكذا مناخ يصعب الحكم وتصعب المعارضة، ولا يتمكن الحاكم ولا المعارض من امتلاك القدرة على اجتذاب ثقة الناس أو إقناعهم، قدر ما تتفشى حالة من اليأس وفقدان الثقة والتشكك والريبة وعدم القدرة على تبين فروق الأمور أو انتقاء الخيط المناسب.
لو كنا فى مناخ إقليمى مغاير ما كان الواقع مؤلماً ومثيراً للرعب، لكن ما نعيشه من أجواء ومتغيرات لم تعد مفروضة على المنطقة وإنما أصبحت فى جانب منها جزءاً من مكوناته لا ينتظر التنفيذ وإنما بدأ بالفعل، بل شارف فى بعض زوايا المشهد للتحول إلى واقع يسعى إلى الاستقرار، هذه الأجواء المحيطة هى ما تجعل التداعيات غير المنظورة لحالة الصراع القائم مؤلمة ومرعبة ومزعجة فى آن.
ليست المسألة فى خلاف على خناقة بين أطباء وأمناء شرطة، ولا فى أداء هيئة تقاعس بعض موظفيها عن أداء واجبهم، أو فى حث الناس ورفع معنوياتهم للمشاركة أو لتأييد هنا أو هناك، وإنما المسألة فى القدرة على سرعة التلبية والاستجابة والمبادرة بقدر عالٍ من الشفافية يسد فجوة الثقة التى تتسع يوماً بعد يوم وتنذر بمخاطر شديدة.
من غير الطبيعى أن تتحول مشاجرة بين أطباء وأمناء شرطة إلى معركة تكسير عظام بين نقابة الأطباء ووزارة الداخلية، وليس طبيعياً أن تتحول بنود أو بعض الصياغات فى قانون مكافحة الإرهاب إلى ما اعتبره البعض جزءاً من مخطط لتكبيل حرية الرأى والتعبير، ومن غير المقبول أيضاً اعتبار كل أشكال الاحتجاج أو النقد أو المطالبة بالحريات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية مؤامرة وأصحابها عملاء مأجورين.
الدول لا تُبنى بالمؤسسات الرسمية وفقط، وإنما هى جزء من بناء أكبر من ذلك بكثير يقوم على تضافر الرسمى والشعبى، والحكومى بالأهلى، والتنموى الاجتماعى بالسياسى، والعلاقة بين الجانبين تقوم على التعاون والتكامل وليس التبعية والانقياد، والحوار هو المنظم للعلاقة والقادر على الخروج بالخلاف من نقطة التباين إلى مرحلة التوافق والقبول على قاعدة التفاهم وليس الفرض والإجبار، والحكومات مهمتها تحقيق التوازن فى المجتمع بين كل الأطراف، بالقيادة وليس بالحكم.
وفى حالتنا لن نتحرك قيد أنملة وسنظل نراوح مكاننا ما لم يتم تنظيم مساحات الخلاف وإعادة رسمها بهدف التوافق وليس الصراع، وأن نتفاهم على قواعد ثابتة لا تخضع للتغيير أو التلاعب، قواعد تحكم العلاقة بين كل الأطراف على أساس الشفافية والمبادرة والثقة، وعلى تبيان الفارق بين تلبية المتطلبات الشخصية وبين الإضرار بالصالح العام، وأن تقوم تلك القاعدة على التزام الطرفين معاً ليتحولا إلى طرف واحد متباين فى الرؤى والأفكار ومتوحد فى القاعدة والبناء.
لا أتخيل أبداً مشاجرة تتحول إلى أزمة سياسية و«جمعة غضب»، طب لو أصدرت الحكومة قانوناً بإلغاء العيادات الخاصة.. حنشوف «جمعة» شكلها إيه؟