هذه الطبقة المسكينة المهروسة المظلومة المُعتدى عليها، المُفترى عليها، الصامدة المحاربة، لم تجد من يحنو عليها. فلا هى حصلت على ملكات الانضمام للطبقة العليا، القادرة على خلق عالم خاص بها فى «كومباوند» سكنى هنا، أو «مارينا» صيفية هناك، أو رحلة إلى أوروبا أو أمريكا أو الشرق الأقصى لاستنشاق هواء الرقى، بالإضافة إلى قائمة الانسلاخ الكلى عن المجتمع حيث المدارس الدولية، ثم الجامعات فى إسبانيا وبريطانيا وأمريكا وفرنسا. ولا هى قادرة على الذوبان فى طبقات نصف الهرم الآخر، حيث الفقراء وأنصاف الفقراء ومعهم أبناء العشوائيات والأحياء حيث المعاناة والمقاساة ومكابدة المشكلات بصفة يومية أدت إلى قدرة فائقة على التعامل مع القبح والتشوه والغوغائية من باب الاضطرار وتحت بند الاحتياج للبقاء على قيد الحياة. الطبقة المتوسطة العاجزة عجزاً كاملاً خلال السنوات الخمس الماضية عن مجاراة الواقع الاجتماعى والأخلاقى والسلوكى الأليم، حيث طفحت البالوعات بأدنى وأدنأ نتاج العقود الثلاث (ويزيد) الماضية، وكبر أبناء المدارس الخالية من التعليم منزوعة الجوانب التربوية، ونضج أبناء العشوائيات حيث منظومة قيم تلتحف بمظاهر دينية وتخبئ وراءها قنابل اجتماعية وأخلاقية وقيمية موقوتة آخذة فى الانفجار هذه الأيام، وتوغلت فئات عدة من المصريين تربت على الخوف والقهر وليس الالتزام بالقانون أو التمسك بالقواعد، فلما انهار حاجز الخوف بات كسر القانون عقيدة وهتك القواعد غاية. وبينما الطبقات المقتدرة ما زالت محتفظة بقدراتها المادية على الانعزال فى قوقعتها، بقيت الطبقة المتوسطة فى مهب الريح. تارة تتقاذفها عنجهية الأثرياء، وتارة أخرى يقهرها تجاهل النظام (بحكم انغماسه فى مشكلات الفقراء وهم الأكثر عدداً والأعتى قوة والأكثر تهديداً لأمن البلاد الاجتماعى والأوفر حظاً فى نيل اهتمام الإعلام الذى ينصب نفسه حامى حمى الفقراء)، ودائماً تجد نفسها مهروسة تحت وطأة سطوة الثقافة الغوغائية والمنظومة العشوائية التى بات لها اليد العليا فى الشارع المصرى. وبعد هذه المقدمة الطويلة لا بد من الإشارة إلى أن الطبقة المتوسطة فى مصر هى الأقل قدرة على طرح قضاياها والأعثر حظاً فى نيل الاهتمام. وكلما تحدثت عن معاناتها من السلوكيات المتدنية المهيمنة فى الشارع، قيل لك: لا تلُمْهم فهم فقراء. ولو شكوت من تعرضها للعنف من قبل عامل أو بائع أو سائق توك توك، جاء الرد جاهزاً: لا تلمه، فهو نتاج سنوات الفساد والظلم. ولو جاهرت بأن نساء هذه الطبقة يجدن أنفسهن أشبه بالكائنات القادمة من الفضاء حيث لا يؤمن بالضرورة بأيديولوجيا «القطيع» فى المظهر أو التصرفات، انبرى المدافعون «المسألة بسيطة.. انضمى للقطيع». وحيث إن الدولة منشغلة فى ترميم مصر بعد ما لحق بها من خراب ودمار، أغلبه يتجسد فى بناء الشخصية المصرية، فإن أبناء الطبقة المتوسطة قلما يتمكنون من المطالبة بحق من حقوقهم ولو كان الحفاظ على آخر ما تبقى لهم حيث العيش وكأنهم «بنى آدمين». وإن فعلوا، واتفقوا فيما بينهم على إطلاق محاولة هنا أو تجربة وسيلة هناك، وقفت القاعدة العريضة صاحبة السطوة والسيطرة لهم بالمرصاد. أحدث هذه المحاولات هى تجارب تاكسى «أوبر» و«كريم»، وهما من أسرار الطبقة المتوسطة التى حاولت الحفاظ عليها حتى يحفظها الله من الزوال. فالتاكسى الأبيض بلغ درجة من التردى والقرف والانحدار تحول معها إلى مصدر إضافى من مصادر تعذيب الطبقة المتوسطة. بالطبع هناك استثناءات نادرة، لكن القاعدة العريضة تشير إلى قذارة السيارة من الداخل، مظهر السائق الرث ولا يخلو الأمر من روائح كريهة، كذب دائم بأن العداد متعطل، ادعاءات مستمرة بأن الابن فى الحضَّانة، والزوجة تغسل كلى، والأب توفى لتوه، والأم تعالج من السرطان، والجد يحتضر فى المستشفى، وهلم جرا، ناهيك عن فقرة «القرآن الكريم» فى بداية الرحلة، ثم «أوكا وأورتيجا» تتخللها فقرات السباب والشتائم لكل من حوله وانتهاء بالتحرشات الجنسية واللفظية التى لا تخلو من ادعاءات دينية، بالإضافة بالطبع إلى أسلوب القيادة الذى تفوق على الأسوأ فى تاريخ الإنسانية، ألا وهم سائقو الميكروباص والتوك توك وباصات النقل العام. وإن شكا الراكب، فعليه إما النزول مصحوباً باللعنات أو تحمل المزيد من القرف على سبيل الانتقام. وحيث إن إدارة المرور على ما يبدو فى إجازة مفتوحة لحين إشعار آخر، وحيث إن مثل تلك الشكاوى لا تلقى إلا أذناً من طين والأخرى من عجين، فهى رفاهية لا طاقة للدولة بها، وتفاهة مقارنة بهموم الوطن والفقراء. وحالياً تنبه سائقو التاكسى الأبيض إلى خطر «أوبر» و«كريم» فما كان منهم إلا أن هاجموا واعترضوا وعارضوا، لكنهم لم يتكبدوا عناء سؤال أنفسهم: لماذا تنصرف الطبقة المتوسطة عنا وتفضل أوبر وكريم؟ والإجابة أنقلها لهم نصاً مما كتبته صديقة:
«التاكسى الأبيض أصبح مكاناً غير آمن وغير مريح، وحرامية ونصابين وبلطجية، وريحتهم وحشة وبيتحرشوا وبيركبوا خمسين مراية علشان يتفرجوا ع الزباين. وبيستجدوا بحكايات شخصية كذب. وبيتكلموا كلام جنسى وبيتكلموا ف الموبايل أثناء السواقة. أنا استخدمت كريم مرة واحدة، وأد إيه كانوا محترمين والسواق شاب جميل محترم ولطيف وساكت والعربية نضيفة وجميلة وريحتها حلوة.. وخد أقل من المبلغ اللى بدفعه للحرامية بتوع التاكسى الأبيض».
وبدلاً من أن يحسِّنوا من أنفسهم، أو تتنبه الحكومة إلى أنها تركتنا لمجموعات من البلطجية والحرامية والمتحرشين والغوغائيين، إذ بهم (سائقى التاكسى الأبيض) يطالبون بوقف «أوبر» و«كريم». اتركوا الطبقة المتوسطة تتنفس.