من يفعل ذلك بنا؟..
من يعلمنا أن نغضب من أجل ما لا يستحق، ونغفل عما يستحق وننتفض لأشياء موقعها الحقيقى بين ما لا يستحق وما يستحق؟
غضب الناس فى الشوارع، وانتفاضة الفئات المختلفة لهذا المجتمع أصبحت محل تلاعب، كما لو كانت أوراق لعب على مائدة يحيط بها لاعبو القمار، ينتفض الناس، ويغضبون فى لحظة، يشعلون نارهم لمجرد رؤية فيديو مدته 20 ثانية، لأم مصرية تصرخ فى وجه موكب الرئيس: «ارحم ابنى يا ريس»، تنتفض مع صرخاتها حناجر السياسيين والنشطاء، الكل يكتب على الفيس بوك، وتويتر، الكل يطلب التضامن ودعم الأم، الكل يستخدم الصرخة كسلاح يطعن به السلطة التى يعارضها، الكل ينشر أخباراً عن ابنها المعتقل، وبعضها يقول إنه يعانى آثار تعذيب، وبعضهم يدعو لوقفات احتجاجية، وبعضهم يقول هذا هو «بوعزيزى» الجديد، ومن صرخة أمه تشتعل الثورة، ثم فجأة، دون أى مقدمات، تهدأ كافة صدورهم وتنطفئ نار غضبهم، ويختفى النشطاء، ويتوقف الثوريون والسياسيون عن ترويج فيديو الأم المصرية، ويبدأ بعضهم فى تشبيه الفيديو بأنه تمثيلية، وكل هذا لأن السيدة التى صرخت وجدت استجابة من الرئاسة، ولأن الحقيقة قالت إن وليدها لم يكن معتقلاً ولا ضحية تعذيب، بل مريض سرطان يريد العلاج على نفقة الدولة، هكذا وبمنتهى البساطة حينما اكتشفوا أن صرخة السيدة المصرية أمام موكب الرئيس، ليس مادة ثرية للاتجار بها. أهملوها، وأطفأوا مواقد الغضب وكأن شيئاً ما كان.
لا يختلف الأمر فى الشارع عن مؤسسات الدولة، يغضب وزير الآثار مثلاً حينما تنتقد أخطاء وزارته، ويغضب قيادات وزارة الداخلية حينما تنتقد تجاوزات بعض أفراد الأمن، سواء كانوا ضباطاً أو أمناء، وحينما يسقط ذقن تمثال توت عنخ آمون مثلاً، ويصبح الغضب أمراً حتمياً، تجد وزير الآثار هادئاً، وكأن شيئاً ما كان، وحينما تكشف الصحف قضية تعذيب أو تجاوز للشرطة، يخرج عليك رجال الشرطة بهدوء، وتقام مباريات تبرير ليلية فى كافة البرامج والمحافل السياسية وكأن شيئاً ما كان.
على أى شىء نغضب، ومنذ متى أصبح الغضب لما هو حلال أو حرام؟ لماذا يجوز للداخلية أن تغضب من الفيديو المبتذل الذى صنعه شادى ومالك، ويجوز لرجالها فى الإعلام تعميم هذا الخطأ على الوسط الشبابى، بينما لا يجوز للمواطنين الغضب من فيديو إهانة أمين الشرطة لسيدة فى المترو، ويصبح الأمر مرتبكاً إن قام المواطن بتعميم بعض تصرفات أمناء الشرطة.
على أى شىء نغضب، ولماذا يريد الأطباء من الشعب مشاركتهم الغضب بسبب كرامة أطباء المطرية، بينما النقابة ذاتها، والأطباء أنفسهم، يكرهون، ويرفضون غضب الشعب الموجه إلى كل طبيب مهمل فى عمله، وكل طبيب أهان كرامة مريض فى مستشفى عام، وكل طبيب رفض علاج حالة فى مستشفى عام، ودوماً يكتبون قصائد تبرير خاصة بالإمكانيات، وطبيعة الظرف المجتمعى، وإذا كنا متضامنين قلباً وعقلاً مع نقابة الأطباء فى غضبتها تجاه ما حدث لأطباء المطرية، فلنا أن نسأل متى ستغضب نقابة الأطباء، ونرى لها جمعية عمومية طارئة بسبب تزايد حالات الإهمال الطبى فى المستشفيات.
على أى شىء نغضب، تغضبون من شباب الألتراس، بسبب هتافاتهم وأغانيهم الصادمة، بينما يصبح التعبير عن الغضب من ردح بعض السادة النواب، وتبادل كباتن الرياضة والكرة الشتائم عبر فيديوهات ساخنة أمراً غير مقبول، وكأن التجاوز لهم حرام، وله ألف تبرير، بينما تجاوز شباب الألتراس يجب أن يكون عقابه الموت والسجن والحرمان من الوجود فى المدرجات.
توخَّ الحذر يا صديقى. هم يتلاعبون بغضبك. يمنحونه لما لا يستحق، حتى إذا جاء وقت استحقاقه، نفدت خزائنك.