من يراجع مفاهيم الثقافة العربية، خاصة فى عصر الازدهار، لن يجد «السعادة» من بين قيمها الأولى ولا أهدافها العليا، أقصد السعادة الإنسانية فى الحياة، فى وعينا وثقافتنا أن الحياة هى دار للإنجاز وأداء الرسالة التى كُلِّفَ بها الإنسان من الله سبحانه وتعالى، وهى إعمار الأرض، وهذا يقتضى العمل والكدح، أما السعادة فتكون فى الآخرة فقط، لذا تسمى الدار الآخرة «دار السعادة»، وقديماً كان يقال عن المتوفى «انتقل فلان من دار الفناء إلى دار البقاء والسعادة».
بهذا المعنى فإن السعادة تكون فى الدار الآخرة أو دار الحق، وهذا ليس محققاً لجميع البشر، فهناك من يذهب إلى الجنة فيفوز بالسعادة، أما من يذهب إلى جهنم فسوف يكون مصيره العذاب. دخول الجنة والفوز بالسعادة ليس مؤكداً إلا للقلة، ومن بينهم العشرة المبشرون بالجنة، الذين تحدث عنهم وذكرهم بالاسم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومع ذلك فمن بينهم نجد أبا بكر الصديق يقول ورعاً: «لا آمن مكر الله حتى لو كانت إحدى قدمى فى الجنة».
وقد يقول قائل: هل يعنى الكدح أن لا يكون الإنسان سعيداً؟ والرد أن ذلك ليس مؤكداً، فقد يكون الإنسان مضطراً إلى ذلك، وقد لا يحقق له الكدح والجهد العائد الذى ينتظره والمردود الذى يتوقعه، فضلاً عن أنه يجب أن ينتظر الجزاء من الله سبحانه وتعالى فى الحياة الآخرة، وليس فى الحياة الدنيا.
الجهد الشاق والكدح فى وعينا يكون لتوفير الاحتياجات الأساسية للإنسان وتتلخص فى المأكل والمشرب والمسكن، ويندر -الآن- أن تجد من يؤدى عمله ويقوم بواجبه وهو سعيد، هو يؤدى فرضاً عليه وأكاد أقول غصباً عنه، يصحو من النوم ويتوجه إلى العمل، ليقضى وقتاً مملاً، ثم يترقب موعد الانتهاء والعودة ثانية، يحسب كل شىء بقلق وتوتر، المخاوف تحاصره، حتى لو لم يكن هناك سبب أو مبرر لتلك المخاوف.
ومن يراجع أعمال كبار الفلاسفة المسلمين والعرب لن يجد السعادة من بين المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التى يتوقفون عندها، أكرر السعادة فى الحياة، وأمامنا أعمال ابن مسكويه والفارابى وغيرهما، وهى خلو من التركيز على السعادة، فى مقابل ذلك عرفت ثقافتنا مفاهيم مثل «المجون» أو ما يسميه المصريون «الفرفشة».. ساعة الحظ.. ساعة لقلبك.. وغيرها، وهذه كلها لا تعنى السعادة، بل قد تكون انعكاساً لأزمة أو أزمات حياتية وإنسانية، أغانى الأصفهانى فيها الكثير والكثير من ذلك، مجون وغير ذلك، أما «ألف ليلة وليلة» فهى تمتلئ بما هو أكثر ويختلط فيها الخيال بالواقع، امرأة الصندوق فى بداية الليالى نموذجاً، وفيها من خرق القواعد الأخلاقية والإنسانية ما لا يخطر ببال، مثل قيام علاقة جنسية بين امرأة وقرد، لكن ما ورد فى الأغانى والليالى من وقائع وقصص كلها تقدم باعتبارها مقدمات ودلائل لنتائج ضرورية، وهى أن عواقب المجون والترفيه وخيمة اجتماعياً وأخلاقياً وإنسانياً وسياسياً، هذه الحكايات والوقائع تقدم ليس باعتبارها دلالة سعادة، بل دليل غفلة وابتعاد عن الطريق القويم.
لذا نجد كثيراً من الماجنين تنتهى حياتهم بالتوبة التامة والاتجاه إلى التصوف والزهد، ومن لا يتصوف فإنه يصير ورعاً وتقياً، تأمل -مثلاً- نموذج أبونواس شاعر المجون الأكبر، وكيف انتهت حياته، فقد تراجع عن مجونه وتاب.
ولماذا نذهب بعيداً، شخصية «رابعة العدوية» معروفة، بدأت حياتها طبقاً لكثير من الروايات، غانية محترفة، ثم فى لحظة معينة اكتشفت ضحالة كل ذلك وأنه غثاء، فكان أن حدث لها التحول وصارت: العابدة، الزاهدة، المبتهلة، الورعة، والآن قصتها معروفة ليس لنا فقط، بل على مستوى العالم كله، ولها نظائر فى مختلف الثقافات الإنسانية.
كل هذا طيب وإيجابى جداً، وأكرر أن المجون ليس دليل سعادة بل قد يكون انعكاساً لأزمة أو أزمات عديدة، لذا فإن النهاية معروفة إما التراجع أو الضياع، وهذا ليس فى تراثنا القديم فقط، لكنه موجود فى التراث المعاصر، رواية «أديب» لعميد الأدب العربى د. طه حسين تكشف ذلك بجلاء، وحكايات رائد الوجودية الفيلسوف الدنماركى «سورين كيركجارد» تؤكده.
أمام الفرفشة وساعة الحظ، فهناك النفس اللوامة، والتى يجب أن يتمتع بها كل إنسان، تراقب سلوكه وتصرفاته، وتراجع أداءه، وقد يصل الأمر مع البعض إلى أكثر من ذلك، فتصبح عملية من «الوسواس القهرى»، وهى حالة مرضية تعالج فى العيادات النفسية.
حتى الآن يتطير بعض المصريين من السعادة، فإذا ضحك أحد ينتابه الخوف ويعتبر ذلك مقدمة لشر مقبل «إحنا ضحكنا كتير.. خير اللهم اجعله خير».
على الجانب الآخر فإن الثقافة الغربية، منذ عهد سقراط، جعلت السعادة هدفاً من أهداف الحياة، يجب أن يحققه الإنسان وأن تضمنه «دولة المدنية» للمواطن، صحيح أنها لم تكن كذلك طوال عصورها، لكن منذ عصر النهضة باتت السعادة، تحقيقها والحصول عليها، ضرورة للأفراد والدولة، وباتت السعادة مبحثاً فلسفياً، وفى علم النفس مهماً وضرورياً، ومع انتشار العولمة وثورة التواصل، فإن بعض المفاهيم والحقوق صارت إنسانية وعالمية، بغض النظر عن جذورها ومنشئها أو من قال ونادى بها أول مرة، مثل الحرية والعدالة والكرامة والكبرياء والحق فى العيش والسعادة وغيرها وغيرها، لم يعد أحد فى العالم يتوقف أمام الحرية ويقول «هل هى شرقية أم غربية.. أوروبية أم آسيوية؟».. وهكذا.
«السعادة» أخذت نفس الحيز والاهتمام، وصارت حقاً عالمياً وإنسانياً، لها معايير وشروط وأدوات، خاصة بعد أن أقرتها الأمم المتحدة فى وثيقة حقوق الإنسان، وصار هناك مقياس وإحصاء عالمى للسعادة، قرأت إحصاء مؤخراً عن السعادة فى الشرق الأوسط، وانتهى إلى أن «إسرائيل» هى الأولى.. ولا أعرف كيف!!
هل مواطنوها العرب -مثلاً- سعداء إلى هذه الدرجة رغم ما يتعرضون له؟!!
وطبقاً لهذه الإحصائية فإن الدول العربية تأتى فى ذيل القائمة، بما فيها دول الخليج، ومن قبل لم نجد فى الولايات المتحدة ولا فى الدول الاسكندنافية ولا فى أوروبا وزارة للسعادة، وحدها دولة الإمارات العربية المتحدة استحدثت هذه الوزارة الأسبوع الماضى، وهو أمر يحسب لها، صحيح أن السعادة نتيجة ممارسات وأفعال عديدة، وتكون محصلة نهائية، لكن أن تخصص وزارة تراقب تحققها وفق المعايير المتعارف عليها عالمياً، فإن هذا عمل إيجابى جداً. وعلى المستوى الثقافى والمعرفى، نحن بإزاء نقلة كبيرة، تجعل «السعادة» فى الحياة وعلى الأرض هدفاً سياسياً وسيكولوجية كاملة وفعلاً دائماً وليست لحظة عابرة، يسرقها الإنسان من الزمان أو يخطفها من العمر، ولا يتطير ويستعيذ بالله منها.