لا شك أن هناك فارقاً شديداً بين الفرد والجماعة.. الفرد جزء، أما الجماعة فكل، ومعلوم بداهة أن الكل أعظم من الجزء.. الفرد حتى وإن كان عبقرياً نابغة لا يستطيع أن يحل محل الجماعة أو يقوم بعملها، أو أن يحقق شيئاً من أهدافها، اللهم إن كان نبياً كإبراهيم (عليه السلام) الذى قال تعالى عنه: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً» (النحل: ١٢٠)، أى كان أمة وحده؛ إذ كان عنده من الخير ما كان عند أمة بأسرها، وقد انتهى عصر الأنبياء بنبوة الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم).. ومن ثم فنحن أمام أفراد.. بشر، يصيبون ويخطئون.. قدرة الفرد وكفاءته، لا يمكن أن يبلغا نظيريهما عند الجماعة، خاصة إذا كانت هذه الجماعة عاملة وفق منهج صحيح وسليم.. يجرى هذا على رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة، أو رئيس أى مؤسسة أو هيئة أو شركة أو جماعة أو حزب.. والجماعة -أياً كانت- عندما تعمل بشكل مؤسسى عادة ما تستطيع تحقيق أهدافها، حتى وإن كانت أهدافاً صعبة بعيدة المنال.. فهناك الرؤية الاستراتيجية، والخطط والبرامج، والإدارة، وما تستلزمه من توزيع للأعباء، وتحديد للوسائل والأدوات والآليات، علاوة على المتابعة، والمحاسبة، وما إلى غير ذلك.. فإذا توافر مع هذا كله الشورى، بمعناها الصحيح، كان النجاح حليفها فى كل خطواتها.. وهذا بخلاف الجماعة التى تفتقر إلى المؤسسية، سواء فى بنائها، أو عملها، أو فى طريقة وأسلوب اتخاذها للقرار.. هناك جماعات ليس لديها هياكل إدارية أو تنظيمية، كما لا يوجد بها لجان فنية أو نوعية، وتكتفى برئيس أو مسئول ومجموعة أفراد كسكرتارية، والباقى لتلقى الأوامر والتوجيهات والتنفيذ(!).. مثل هذه الجماعات، حتى وإن كانت لديها أهداف محددة، فلن تستطيع أن تصل إليها.. إن أى عمل كبير على مستوى الجماعة، تربوياً أو دعوياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، لا يستطيع أن يقوم به فرد واحد مهما كانت قدراته أو كفاءاته، بل لا بد من العمل الجماعى، وأن يكون هذا العمل منظماً وممنهجاً وداخل إطار مؤسسى.. وإذا كان لكل مؤسسة داخل الجماعة دورها وعملها، فإن من لوازم العمل المؤسسى وجود لوائح؛ أولاً: تحدد هذا الدور (أهداف، ووسائل، وآليات)، ثانياً: تنظم عمل الأفراد داخل المؤسسة، وثالثاً: تنظم عملية التنسيق بين المؤسسات وبعضها البعض، وبقدر توافر هذا التنسيق والتعاون، بقدر ما يتمكن الأفراد والمؤسسات من تحقيق أفضل النتائج الممكنة وبأقل التكاليف والأعباء. قد تكون هناك مؤسسة كاملة من حيث الشكل، لكنها خالية من المضمون.. والمضمون الذى نقصده هو: ١) فهم أفراد المؤسسة لطبيعة دورهم وحرصهم وتمسكهم بأداء هذا الدور، ٢) القدرة على تجسيد هذا الفهم فى عمل مبدع وخلاق، ٣) فهم أفراد المؤسسة لوضعها بالنسبة للمؤسسات الأخرى، بل وضع المؤسسة بالنسبة لبناء الجماعة ككل، وأنها حلقة فى سلسلة، موصولة بما قبلها وما بعدها، وإن ضعف أى سلسلة يقدر بأضعف حلقة فيها، و٤) توافر منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية، ليس على مستوى الفرد فحسب، وإنما على مستوى المؤسسة ككل.. فتوافر صفات الكرم، والجود، والبذل، والتضحية، والفداء، والشهامة، والمروءة، والرجولة، والشجاعة، والإقدام، والتكافل، وإنكار الذات، كل ذلك سوف ينعكس إيجاباً بالضرورة على الأداء، والعكس صحيح. إن نبل الغاية يجب ألا ينفصل عن شرف الوسيلة، ولا يصح ولا يجوز فى الدعوة إلى الله اتباع الوسائل «الميكيافيلية» للوصول إلى الهدف.. فإن أهم ما اشتهر به الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) قبل بعثته صفتان أساسيتان هما: الصدق والأمانة.. وما كان الله تعالى ليبعث نبياً أو يرسل رسولاً، إلا وقد توافر فيه نبل الخصال ومتانة الخلق، وكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) على ذروة الكمال الإنسانى فى كل شىء جليل ونبيل.
إن أى خلل فى عمل وأداء المؤسسة، سواء على مستوى الفرد داخلها أو على مستوى المؤسسة ككل، لا بد أن يؤدى إلى إهدار طاقات المؤسسة، وربما فشلها، ومن ثم فإن إصلاح وعلاج هذا الخلل فى التوقيت المناسب، وبالطريقة التى لا تؤدى إلى ما هو أسوأ منه من الأهمية بمكان. ولا شك أن الجماعة -أى جماعة- عندما تستمد وجودها ونشاطها من القانون، فإن ذلك يعطيها قوة وسنداً، فضلاً عن عدم الانزلاق إلى نشاط تخريبى أو عمل هدام، كما يعطى الفرد فيها إحساساً بالطمأنينة والراحة، وبالتالى القدرة على العمل والإنتاج.. أما إذا كان يعمل خارج إطار القانون، فإنه يعرض نفسه للملاحقة والمطاردة والمساءلة والحبس الاحتياطى والمحاكمة.. إلخ، فضلاً عن الخوف والقلق والتوتر والارتباك والاضطراب، ناهينا عن ضياع العمل المثمر والبناء.
داخل جماعة الإخوان، كان يشوب المؤسسية خلل وعوار شديدان.. كانت كما يقول المثل: «الصيت ولا الغنى».. وأى منصف عاش معظم سنوات عمره يتقلب بين مؤسسات الجماعة يعلم ذلك جيداً، ويعلم أن ثمة مشكلات كثيرة كانت تعانيها؛ بعضها تربوى، وبعضها نفسى، وبعضها لائحى، وبعضها فقهى، وبعضها الآخر أخلاقى.. وقد ظهر ذلك كله واضحاً وجلياً خلال الفترة القصيرة من حكم الإخوان.. ومن المؤكد أن معظم -إن لم يكن كل- الأخطاء التى وقعوا فيها كان سببها غياب المؤسسية الصحيحة.. يظهر هذا فى محاولتهم السيطرة على مؤسسات الدولة، وذلك عن طريق تقديم أفرادهم (عديمى الخبرة والتجربة) بدلاً من آخرين (من أهل العلم والقدرة والكفاءة) فى هذه المؤسسات.. ويظهر أيضاً فى الإعلان الدستورى الكارثى الذى أصدروه فى ٢١ نوفمبر ٢٠١٢.. ويظهر كذلك فى جميع الفرص التى أتيحت لهم، فأضاعوها.. وليس أدل على ذلك من إضاعة فرصة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.. وفى الوقت الذى أعلنت فيه حركة «تمرد» أنها جمعت حوالى ٢٢ مليون استمارة من الشعب المصرى ضد حكم الإخوان، وأن هذا العدد مرشح للزيادة يوم ٣٠ يونيو، كانت المعلومات لدى قياداتهم تدعى أنه لن يتجاوز بضعة آلاف (!!)، الأمر الذى يدل على أن مؤسسات الجماعة كانت فى غيبوبة كاملة، أو أن هناك من كان يمد قياداتها بمعلومات كاذبة.. لقد كان من المستحيل على جماعة بهذا الوزن والانتشار أن يحالفها التوفيق، وهى تختزل نفسها فى أفراد قلائل، بيدهم توجيهها وتحديد مسارها، بينما المؤسسية لم تكن سوى مجرد إجراء شكلى، ليس إلا.. فى الحلقات الماضية تكلمنا عن الهيكل الإدارى والتنظيمى داخل جماعة الإخوان، وكيف أنها احتوت مؤسسات كثيرة داخلها، لكنها -للأسف- لم تكن تمارس دورها الحقيقى.