ما زلت أتذكره جيداً.. مُدرس فصل أولى ابتدائى/أ.. كان بشوشاً ومرحاً لأقصى درجة.. وكان يحبنا جميعاً على الرغم من شقاوتنا وصوتنا العالى وخناقاتنا العبيطة على مسطرة أو قلم ألوان.. ما زلت أتذكر سؤاله عن اسمى فى أول يوم، واحتفاءه الكبير بى وتصفيق زملائى فى الفصل.. كان يفعل ذلك مع كل منا لنتغلب على الخوف والرهبة داخل قلوبنا الصغيرة، وكنا إذا ما تجاوزنا خط الشقاوة المسموح يقف فجأة.. ثم يقول مهدداً: «لا تجعلونى أغضب! لأنى إذا غضبت سأتحول إلى.. الرجل الأخضر!»، يقولها.. فنتأهب جميعاً فى كراسينا وتتعالى ضحكاتنا وصياحنا حتى نستفزه أكثر، فينفخ أوداجه، ثم يدير وجهه إلى الحائط ويبدأ يهمهم ويزمجر، فنتقافز على كراسينا كالقرود من فرط الضحك.. ثم يلتفت فجأة إلينا صارخاً «أناااااا الرجل الأخضر!» ويركض مسرعاً باتجاهنا وسط صياحنا الشقى، فينقض على أحدنا بيديه ليحمله عالياً مدغدغاً إياه، فيصيح الولد مقهقهاً «خلاص حرّمت حرّمت.. هعملها على نفسى ها ها ها» فنستلقى على ظهورنا ضاحكين من المشهد الذى ننتظره بشغف كل مرة..
ما زلت أذكر قصصه الخيالية، وتصديقنا لكل حرف فيها، حتى إننى فى إحدى المرات أثناء خروجنا من المدرسة رأيته يركب سيارته، ظللت يومها طوال الطريق أحكى لأبى وأخى عن سيارته وقدرتها على الطيران، وخاصية الاختفاء، وسرعتها الصاروخية.. كانت حمراء اللون.. سيارة داتسون موديل ٨١..
كان خلوقاً ودوداً محباً لعمله متفانياً فيه، يعرف أهميته كمعلم بالنسبة للأطفال الصغار.. فاستقر فى قلوبنا وزرع أخلاقه فى وجداننا، وستظل ذكرياتنا الجميلة معه محفورة بداخلنا إلى الأبد.
فى تلك المنطقة السعيدة بداخلى، حيث يسكن الأستاذ سمير، يسكن بجواره كثيرون.. أسمعك يا أستاذ على وأنت تقول لى بعد تلاوتى لبعض آيات القرآن الكريم: «صوتك جميل يا بنى.. وسيكون لك شأن.. فاستخدم صوتك فيما ينفع الناس».
وأراك يا أستاذ أيمن وأنت تضحك مصفقاً لى فى طابور الصباح بعد إلقائى فى الإذاعة المدرسية مجموعة من النكات التى قمت بتجميعها بعناية من أعداد فلاش وسماش، ومما استطعت حفظه من قفشات أبناء عمومتى وأصدقائى فى جلساتنا الصيفية على الرصيف.
ولا أدرى لماذا تذكرت فجأة بعضاً من ذكرياتى السيئة.. يبدو أنها خرجت للتو من تلك المنطقة الكئيبة بداخلى، تذكرت صفعتك يا أستاذ سعد على وجهى لمجرد حديث جانبى مع صديقى فى الفصل، تذكرت سخرية أحد زملائى منى ومن اسمى، والتى لم يقابلها رد حاسم منكِ يا أستاذة منـى.. فتوقفت بسببه عن الذهاب إلى المدرسة أسبوعاً.. تذكرت توبيخك الشديد لى يا أستاذ إسحق حين رأيتنى أمازح أصدقائى فى فناء المدرسة فى آخر يوم دراسى، واتهامك بأننى لم أعمل بالحديث الشريف «كثرة الضحك تميت القلب».. لماذا لم تراع صغر سنى ولا فرحة آخر أيام الدراسة؟.. لماذا فرضت فهمك ورؤيتك الضيقة على طفل مثلى؟.. لماذا؟
«بابا وصلنا! إنت مش سامعنى؟!» قالها ابنى مستغرباً.. يبدو أننى سافرت فى الماضى وأخذتنى ذكرياتى إلى مدرستى الابتدائية.. يااه.. لم أشعر بالوقت مطلقاً..
«خلّى بالك من نفسك وخليك شاطر ومؤدب.. واسمع الكلام.. ماشى؟» رفعت صوتى حتى يسمعنى، كان قد خرج من السيارة متجهاً نحو بوابة المدرسة.. التفت إلىّ.. ابتسم ولوّح بيده.. ثم انطلق يجرى بشغفٍ نحو إحدى معلماته التى كانت تنتظره.. ضمّته فى سعادة.. ليبدأ مشواره الطويل..