قد يستغرب البعض أن يسطر كاتب مثلى، يصنف على أنه مهتم بالفكر الإسلامى ورموزه وقضاياه، عن شخصية مثل د. بطرس غالى الذى لا علاقة له بالفكر الإسلامى وجل اهتماماته سياسية محضة.
ولكن الذى لا يعرفه البعض أننى أتابع د.بطرس غالى منذ زمن طويل بعد أن سمعت حواراً له منذ أكثر من ثلاثين عاماً سألته المذيعة فيه: ماذا يعجبك من برامج التليفزيون؟ ففوجئت به يجيبها: أنا لا أتفرج على التليفزيون مطلقاً، فدهشت المذيعة سائلة: ولماذا؟ قال: ليس لدى وقت لذلك.
وكان والدى يقول لنا ونحن صغار: هل تعلمون أن د. بطرس يجيد سبع لغات؟ ولا يكل ولا يمل فى التنقل بين القراءة والعمل فى صمت.
وقفت طويلاً عند جدية الرجل واهتمامه بالعلم وهو من أوائل من حصلوا على الدكتوراه من «السوربون» الفرنسية فى السياسة والعلاقات الدولية، وأول من أسس قسم السياسة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى ما تزال حتى الآن محافظة على تميزها بين كليات جامعية أخرى كادت أن تنهار علمياً وتربوياً.
لقد أدخل بطرس غالى علم السياسة الأكاديمى إلى مصر بعد أن كانت السياسة تمارس بتوارث الخبرات والملكات، وبعد أن كان خريجو الحقوق -التى تخرج فيها د.بطرس- هى المفرخ الرئيسى للساسة، فضلاً عن القضاء والمحاماة، وكان يطلق عليها قديماً «كلية الوزراء»، وذلك يوم أن كان لها النصيب الأوفى من المتفوقين والشوامخ قبل أن يدخلها ويتخرج فيها الآن من لا يستطيع قراءة أو كتابة صفحة كاملة دون عشرات الأخطاء النحوية والإملائية.
لقد انهارت كلية الحقوق فى مصر بعد أن التحق بها الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، حتى إنك تجد بعض خريجيها ممن يشغلون مناصب رفيعة أو قانونية أو حتى جامعية ينصب الفاعل ويرفع المفعول به دون أن يشعر بأى خجل.
إن أهم ما شدنى فى د. بطرس غالى منذ شبابه هو تلك الجدية الكبيرة فى تناول قضايا «العلم والعمل» وكلاهما يمثل اللبنة الأساسية لنهضة الأمم.. فلم يمضِ يوم واحد على الرجل دون أن يقرأ فيه أو يعمل.. وكلما مر بتجربة فى العمل لم يركن إلى ما وصل إليه، بل يبحث عن غيرها.
فقد كان يعمل فى الجامعة و«الأهرام» و«السياسة الدولية» و«الأهرام الاقتصادى».. ثم «وزير دولة للخارجية 15 عاماً كاملة».. ثم أميناً عاماً للأمم المتحدة، ثم رئيساً للفرانكوفونية، ثم رئيساً للمجلس القومى المصرى لحقوق الإنسان.. وكان فى كل هذه المناصب الرفيعة متواضعاً لا يرى نفسه، ولا يسعى للسلطة.
وبطرس غالى بالذات كان من المدركين أن السلطة تعد مرضاً مزمناً قد تصيب أكثر الناس.. ويرى أن السلطة تغير أكثر الناس سلبياً وليس إيجابياً، وأن من الصعوبة معالجة أمراض السلطة وأدوائها المزمنة، وأن على الذين يجلسون على كراسى السلطة أن يهيئوا أنفسهم لترك كراسيهم يوماً من الأيام، وأن فقد السلطة مؤلم جداً.
ويتفق كلامه مع تشبيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمن يجلس على كرسى السلطة «بالذى يرضع من ثدى أمه» وهى «السلطة»، والذى يُعزل منها أو يتركها بـ«الطفل المفطوم» فى تعبير رائع: «نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة».
فكل من جلس على كرسى السلطة لا يريد مفارقته.. وأحياناً يصاب بعضهم بهوس أو جنون أو اكتئاب وقت مغادرة كرسى السلطة.. كما أصاب أحد وزراء داخلية مصر بعد عزله، إذ أصر الرجل على الذهاب يومياً إلى الوزارة رغم وجود الآخر الذى عُيّن بعده، وأصر أن يكون لكل منهما تخصص فهو للأمن السياسى، والجديد للأمن الجنائى، ولولا تدخل جهات سيادية لمنعه لاستمر على هذا المنوال.
لقد كان من كلمات د. مصطفى الفقى الجميلة أن الوزير يفقد عقله مرتين: مرة حينما يعين فى المنصب، ومرة أخرى حينما يعزل منه.
أما د. بطرس غالى فله حكمة جيدة مفادها: «فقدان السلطة يحتاج إلى نضج إنسانى وعقلى وعاطفى لاستيعاب هذه اللحظة الفارقة».. لأن التليفون الذى كان لا ينقطع عن الرنين أصبح صامتاً كالقبر، وعدد الأصدقاء قل، وزهوة السلطة ضاعت و... و... و...، وكلما كان صاحب المنصب متواضعاً رحيماً عالماً كان استيعابه للحظة العزل أفضل، لأن الناس لن ينفضوا عنه.
وأنا أعتقد أن أصحاب العلم والفكر والعقل السديد والشخصية المتزنة هم أقل الناس إصابة بمرض السلطة سواء فى التعيين أو العزل.. ومعظم العلماء الذين يعتزون بالعلم ويدركون أنه أفضل وأسمى من كراسى السلطة هم أقل الناس بهجة بالكراسى حين يجلسون عليها، وأقلهم اكتئاباً عند تركها.
إن من أزمات مصر الأخلاقية المستعصية نظرة بعض الناس إلى السلطة، فقد تجد الموظف أو الشرطى الصغير ذليلاً فى قريته حتى إذا ملك مصالح الناس وتحكم فيهم، وأصبحت حاجاتهم بيده تحول إلى فرعون بين عشية وضحاها.. ولذلك كانت لنا كلمة مأثورة فى السجن «لا تحكم على الشاويش إلا إذا أمسك المفاتيح»، فهناك شاويش حراسة دون سلاح يبيت فى العنبر وهو أشبه بالمسجون، بل وضعه أصعب من السجين.. لأنه بلا غرفة ولا طعام ولا شراب ولا دواء ولا صابون ويحتاج أن يأخذ ذلك كله من السجناء كل يوم، وقد تراه متواضعاً مهذباً رقيقاً يتمنى خدمة هؤلاء، حتى إذا أمسك المفاتيح وأصبح له سلطان وصولجان إذا بكل نوازع الشر تتفجر منه، إلا من رحم ربى، وهم للحق كثيرون.. فكل حركة بثمنها.. وكل فتح أو غلق بحساب.. وقد تراه متديناً قبل تملك المفاتيح أما بعدها فهو جبار، وقد يكون حشاشاً ولكنه طيب ومتسامح وهو فى السلطة.
ود. بطرس غالى بالذات له نظرات جيدة فى موضوع السلطة لأنه رأى الكثير من أصدقائه فى مصر وغيرها كانوا فى السلطة ثم أصبحوا سجناء أو مطاردين أو معزولين أو مهانين.
ولماذا نذهب بعيداً فأقرب الناس إليه د. يوسف بطرس غالى كان يملك خزائن الأرض فى مصر ثم إذا به الآن محكوم عليه بالسجن 60 عاماً.. والله أعلم كيف تم ذلك، وطبعاً العم يرى براءته ونزاهته والله أعلم بالصواب؛ «فياما فى السجن مظاليم»، على رأى عوام المصريين.
ود. بطرس كان يقبل من يصوب له ويصحح له.. فقد كان له رأى سلبى فى البوسنة والهرسك المسلمة حيث لم يدرك ما وقع عليهم من ظلم ولم يعرف تفاصيل مذابح الصرب لهم.. فذهب إليه د. كمال أبوالمجد فى الأمم المتحدة وصوّب له رأيه.. فأقر به وعدّله بعد ذلك، وقد كان من وصاياه أن يشيعه شيخ الأزهر، فاستجاب د. أحمد الطيب لوصيته، فبطرس غالى لم يعرف التعصب.
وأهم ما يمكن أن يستفيده الشاب من تجربة بطرس غالى هو العمل حتى الممات، والعمل للعمل وعفة اليد فبطرس غالى وجيله لم يسرقوا ولم ينهبوا رغم كل المغريات التى كانت أمامهم، وكان يرى أن العمل يزيل التشاؤم ويجلب التفاؤل ويقاوم الاكتئاب والحزن.
قد تختلف مع بطرس غالى أو تتفق، قد يكون دينك غير دينه، ولكن تبقى فضيلة العلم والعمل والكسب الحلال لنتعلمها جميعاً من أى أحد.