التجاوزات تسىء إلى الشهداء: المعاناة مستمرة مع «النسر والدبورة»
بعضهم يتجاوز عندما «يشتبه» بأحدهم.. وآخرون يأخذون الكمين «سبوبة»
بحفاوة بالغة، وترحيب زائف، يستقبل اثنان من أفراد الشرطة بـ«زىّ مدنى»، رجلاً لا تخفى وجاهته، يعبر الرجل بسرعة مدخل قسم الشرطة الذى يقع بأحد الأحياء الراقية بمدينة القاهرة بابتسامة مصطنعة، يأنف الرجل من مصافحتهما باليد، بينما يتقدّم أحد فردى الشرطة لحمل حقيبة صغيرة فى يده، يهز رأسه فى امتنان، ويرتقى السلم الرخامى إلى الطابق الثانى بالقسم، وبلا استئذان يدلف الرجل بسرعة إلى مكتب رئيس المباحث الذى قضى ما لا يقل عن 10 سنوات فى منصبه، مكتب فخم، ديكور رومانى، أثاث ملكى على الأرجح.. يضع الرجل الحقيبة بجوار مكتب رئيس المباحث، ثم يقضيان الوقت الذى يستغرقه احتساء فنجان من القهوة فى تبادل حديث هامس، ثم يغادر.
الضابط.. قدّموا «قائمة طويلة» من الشهداء فداءً للوطن فى محنته الكبرى.. ومع ذلك ما زالت الاتهامات تطاردهم «بسبب ما فعله بعض الجهلاء» المحسوبين عليهم فى حق الشعب
دون استئذان أيضاً، يدخل أمين شرطة مكتب رئيس المباحث، يعلم تماماً ما يتوجّب عليه أن يفعله، يلتقط الحقيبة ويفتحها، صندوق أنيق من الحجم المتوسط لصناديق المصوغات، يفتحه أمين الشرطة بمرأى من عينى رئيس المباحث الذى ينفث دخان سيجارته المستوردة فى تلذُّذ، يتأمل الرجل محتوى الصندوق ويمرر راحته عليه، أكثر من 500 كارت شحن هواتف محمولة من فئة «100 جنيه» مصفوفة رأسياً، يشير رئيس المباحث إلى أمين الشرطة فيغلق الصندوق: «بسرعة»، ينفذ أمين الشرطة إشارة رئيس المباحث وينطلق بالصندوق لبيع الكروت وتحصيل ثمنها، ثم الذهاب بالمبلغ إلى البنك لإيداعه فى حساب رئيس المباحث.. انتهت هذه الحكاية، لكن لم تنتهِ قصة أكبر.
تتسع رقعة المناطق الرمادية، إلى مدى شاسع بين ما هو قانونى وما هو غير ذلك، تتباعد المسافات بين الحدّين، لا تربطهما سوى «شعرة معاوية»، يحافظ الجميع عليها، يسيرون على الحد بخفة ذهاباً وإياباً، لتُظهر نوعية من الجرائم أو التجاوزات التى تتخفى فى الجنبات المعتمة من حياة المصريين، تنساب كالزئبق، بحيث لا يمكن تحديد أبعادها ولا الإمساك بها، يحتاج ذلك غالباً إلى صدفة بالغة الإتقان أو نوبة نادرة من صحوات الضمير.
من الناحية النظرية، لم يخالف رئيس المباحث فى تلك القصة القانون، ما يفعله من خلال وسيط قد يكون مسموحاً به، مواطن عادى جداً يتاجر فى كروت الشحن، لكن الحكاية تتصل بقصة أخرى، قصة الفساد الحقيقى للضابط، وأى نوع من الخدمات يُقدّمه للرجل الذى منحه صندوق كروت بـ50 ألف جنيه، ليس هذا فحسب، بل إن الأمر يُدار وكأنه «عادى جداً»، لا يثير فضولاً ولا استغراباً، والأهم أنه لا يخضع لأى نوع من الرقابة.. يحتاج الأمر إذن إلى صحوة ضمير مفاجئة لكشف هذا النوع من الفساد أو مصادفة بالغة الإتقان، لم يحدث شىء منها فى القصة السابقة، فالضابط حصل على ترقيات كثيرة، ويتقلد حالياً منصباً مهماً.
اللواء شوقى صلاح: الحساب بعد ثورتى «يناير ويونيو» صار ضعيفاً.. ومصدر بـ«الداخلية»: نتلقى شكاوى المواطنين ضد تجاوزات أى «شرطى».. ونتخذ القرار الملائم ضد كل من يرتكب مخالفة
المصادفة المتقنة كشفت جانباً من جوانب الفساد فى تلك القصة، ليست المصادفة بمعناها الحرفى، لكنها المصادفة المرتبطة بالموت، عندما أعلنت أجهزة الأمن بالقليوبية خلال الشهر الماضى العثور على جثة معاون مباحث قسم قليوب، النقيب «هـ» داخل إحدى الشقق بناحية شبين القناطر، بعد اختفائه 3 أيام فى ظروف غامضة، وتم العثور على جثة النقيب بصحبة إحدى الفتيات، وهما مجردين من ملابسهما، ورجّحت المباحث أن يكون سبب الوفاة تسرّب الغاز داخل الشقة.
وعثرت النيابة داخل الشقة على كمية من الأقراص المخدّرة والحشيش وزجاجات الخمر ومجموعة من الكارنيهات الخاصة بالضابط وسلاحه الميرى، وبتفتيش سيارة الضابط «الملاكى»، عثر أيضاً على لفافات حشيش وأقراص مخدّرة.
قصة الضابط القتيل واحدة من عشرات قصص الفساد الخفى والمتقن الذى لا يقع تحت طائلة القانون، إلا فى ظروف نادرة الحدوث، لولا الموت كان يمكن لقصة الضابط أن تتناسل وتستمر إلى مدى غير معلوم، فى النهاية لن يجرؤ أحد على القبض عليه، ولن تبلغ عنه فتاة سيئة السمعة، وإن أبلغت فلن يعبأ بها أحد فى الغالب.
ضمير المستشار أحمد حامد، رئيس نيابة أول أكتوبر، جعله بطل هذه القصة، عندما قرّر حبس ضابط شرطة بهيئة الطرق والمنافذ بالجيزة، بتهمة الاعتداء بالضرب المبرح على سائق ميكروباص، وتهديده بتلفيق قضية إحراز هيروين بمدينة «دريم» السكنية فى شهر أكتوبر الماضى.
تحقيقات «حامد» كان من الممكن أن تتخذ مساراً معتاداً فى مثل تلك الحالات، ينتهى غالباً بحبس السائق، ولن يُشكك أحد فى الإجراءات، لكن ضمير رئيس النيابة استشعر دخول الضابط إلى تلك المناطق الرمادية، وكشف تلفيقه القضية، فبرّأ السائق وأمر بحبس الضابط باتهامات حيازة هيروين، واستغلال النفوذ، والتزوير فى محضر رسمى.
ليست المصادفة وحدها، ولا الضمير أيضاً، من أدوات كشف تلك التجاوزات، بل إصرار الضحية على حقه، كما حدث فى تلك الواقعة، التى تعود إلى الشهر الماضى، عندما قرر حسام شاهين، وكيل أول نيابة الخانكة، حبس ضابط شرطة بمركز الخانكة 4 أيام على ذمة التحقيق، لاتهامه باحتجاز طالب بكلية الصيدلة بعد استيقافه بسيارته الملاكى فى كمين بلبيس، بالشرقية، وعندما شاهد الضابط مبلغ 113 ألف جنيه مع الطالب احتجزه ساعتين، وأخذ منه 5 آلاف جنيه وتركه دون تحرير محضر، بعد تهديده بالحبس، إلا أن الطالب سجّل ما حدث عبر جهاز «mb3» كان بحوزته.
الضحية هنا هو أحمد عز الدين محمد، 20 سنة، طالب بكلية الصيدلة، اتهم الرائد «أ. ب» فى بلاغ رسمى، باستيقافه أثناء سيره بسيارته الملاكى فى كمين شرطة بلبيس، وقام بتفتيش سيارته ولم يعثر معه على أى ممنوعات، وعندما شاهد الضابط حقيبة بها مبلغ 113 ألف جنيه داخل سيارته كان قد حصل عليها من خاله لتوصيلها إلى والده، فاحتجزه الضابط لمدة ساعة ونصف الساعة، وبعدها طلب منه مبلغ 5 آلاف جنيه ليتركه دون تحرير محضر، لكن الطالب نجح فى تسجيل ما جرى بينه وبين الضابط بواسطة جهاز «mb3» يستخدمه فى تسجيل محاضراته فى كلية الصيدلة.
يُفضل الضباط، محترفو هذا النوع من الفساد، بخلاف اللعب فى الخفاء، الذهاب إلى مناطق مؤمّنة ذاتياً، أو محكومة بالصمت الأبدى، صمت تفرضه طبيعة الجريمة قبل أى شىء آخر، وتلك النوعية هى قضايا المخدرات والسلاح والآثار، هنا تبقى جرائم الفاسدين مراوغة «زئبقية»، إلى أجل غير مسمى.
يشرح ضابط، رفض ذكر اسمه، ما سبق، بقوله: محترفو هذا النوع من الفساد «يلعبون فى المضمون»، بمعنى أنه لو ألقى أحدهم القبض على متهم وبحوزته 100 طربة حشيش على سبيل المثال، لن تختلف العقوبة بالنسبة إلى الكمية فى كثير من الأحوال، أى أنه إذا أثبت فى محضره وتحرياته أن المضبوط بحوزة المتهم 70 طربة فقط، وحصل هو على باقى الكمية، فلن يختلف موقف المتهم كثيراً، وبالتالى يحصل هو على الـ«30 طربة» ويُحرر القضية بـ70 فقط، وفى النهاية لن يكتشف أحد ذلك، لا المتهم سيصرخ أنه تم ضبطه بـ100 طربة، لأن الأمر انتهى، ولا الضابط سيحرص على الإعلان عن الكمية كلها، لأن الأمر لن يختلف بالنسبة له كثيراً.
وفى ما يتعلق بتجارة الآثار، يقول الضابط: «يحدث من جانب بعض الضباط إذا كانت هناك معلومة عن قيام شخص ما بالتنقيب عن الآثار، يعمل الضابط فى الخفاء، ولا يُعلن عن نفسه، ويتابع الحفر عن كثب، وعندما ينتهى المتهم من التنقيب بنجاحه فى استخراج آثار يُلقى الضابط القبض عليه ويقوم بتحريز المضبوطات، وقبل تحرير المحضر يقوم بإثبات قطعاً مقلدة بدلاً من الأصلية، ثم يحصل هو على الأصلية، أما فى حالة الفشل فى استخراج أى قطع فإن الضابط يقوم بالقبض على المتهم وتحرير محضر يتهمه فيه بالتنقيب عن الآثار.
اللواء دكتور شوقى صلاح، الأستاذ بكلية الشرطة، يتحدث عن ذلك النوع، قائلاً: يلزم أى مؤسسة لتحجيم الفساد بها توافر آليات لردع المخالفين، سواء كانت من داخل الجهاز متمثلة فى أجهزة الرقابة الذاتية، أو باضطلاع الرؤساء بمهمة محاسبة المخالفين.
«بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، باتت المحاسبة محدودة بشكل كبير، فمن يُكشف فساده بشكل واضح، خصوصاً عندما يصاحب هذا الكشف تسليط الضوء الإعلامى وتبدو الإدانة جلية، فهنا تُتخذ فى مواجهته إجراءات المحاسبة، ويتبرّأ من فعلته الجهاز»، لكن الأمر حسب «اللواء صلاح»، ما هو إلا حالات فردية ولا يمثل ظاهرة.
مصدر مسئول بوزارة الداخلية يقول إن «المواطن الذى لديه شكوى من أحد الضباط أو أفراد الشرطة ليس عليه سوى إبلاغ القسم التابع له أو مديرية الأمن أو الإدارة العامة للتفتيش والرقابة بوزارة الداخلية، سواء عن طريق البريد الإلكترونى أو الفاكس أو باليد، ويتم التحقّق من جميع تلك البلاغات، حتى إن كانت كيدية أو مجهولة، ونستدعى المشكو فى حقه وسؤاله، وكذلك مرسل الشكوى، ونتخذ القرار الملائم وفق قائمة من الوسائل والإجراءات الكفيلة بمحاسبة كل من يرتكب مخالفة، فالاعتداء على حقوق أو حريات مواطن، أو التعامل معه بطريقة تُفقده الإحساس بعدم الرغبة فى التعامل مع رجال الشرطة سيكون بمثابة خسارة لجهاز الشرطة بالكامل»، كذلك يُشدّد المصدر: «لن نسمح بأى تجاوز فى حق مواطن القانون هو السيد والحاكم».