ميدان العتلاوى، أحد الميادين متوسطة الشهرة بغرب مدينة العريش، لا يتجاوز فى مساحته بضع مئات الأمتار، يقع فى وسط منطقة تجارية وسكنية، مختلطاً بأنفاس أهالى عاصمة شمال سيناء والمترددين عليها من المدن الأقل مساحة وشهرة، لم يدر بخلد هذا الميدان يوماً أنه سيتقدم لصفحات الإعلام ليعلن عن اسمه أو يقص خبراً، لكنه مؤخراً تقدم صفوف الأخبار على استحياء لينقل حادثتين وقعتا على مفارق شوارعه الضيقة؛ الأولى عملية إرهابية شرسة ومباغتة خرجت فيها مجموعة إرهابية لتمطر «القول الأمنى» فى لحظة ارتكازه بالميدان بوابل كثيف من النيران، حصدت جراءها أرواح ضابطين وأربعة مجندين وأُصيب مثلهم تقريباً، والعملية الثانية وقعت منذ أيام عندما ارتكبت إحدى المجموعات الإرهابية عملية «ذبح داعشى» ضد اثنين من أهالى العريش، تم قطع رأس أحدهما ووضعه على جسده قبل التقاط صور فوتوغرافية لهما، ونشرها على المواقع التابعة للتنظيمات الإرهابية فى الداخل والخارج.
حادثتان متكررتان فى قائمة باتت طويلة بالقدر الذى يثير التساؤل قبل مساحة الوجع المتوقعة، والسؤال الأول طرحناه منذ شهور عن كيفية إجهاض النجاح الذى تحقق فى الشيخ زويد ورفح، بانتقال الإرهاب سريعاً ليعيش تحت جلد مدينة العريش العاصمة، المسافة الزمنية التى نتحدث عنها لم تتجاوز الأربعة أشهر منذ اغتيال أمين حزب النور فى وسط المدينة عصراً، وبعده بأسابيع تم استهداف «فندق سويس إن» بسيارة مفخخة وانتحاريين يرتدون أحزمة ناسفة صبيحة انتخابات البرلمان، من تاريخ هاتين العمليتين فى نوفمبر الماضى والاستهدافات والمفخخات لم تنقطع عن شوارع العريش، بالوتيرة التى تضع ضغطاً عصبياً حاداً على أعصاب كل العاملين فى المجال الأمنى والعسكرى، لكن هؤلاء الذين يدفعون ضريبة الدم من شهدائهم ومصابيهم ليسوا هم حقيقة موضوع المقال رغم فداحة المأزق الذى يعيشونه.
المقال عن العريش وعنوانه مدينة صاغت لائحة شجنها الخاص فى صمت نبيل، خمس سنوات كاملة منذ يناير 2011م والعريش تجاهد أن تتنفس بصورة طبيعية من دون اللجوء إلى إجراء اصطناعى حتى تكفل لأهلها قدراً من الهواء النقى، كانت تحاول بما تمتلكه من إرادة عصية أن تقدم شبه حياة للمغتربين على أرضها، منهم ضباط الجيش والشرطة والجنود والعاملون فى مجالات الحياة الأساسية «البنوك، المستشفيات، المدارس، المرافق»، كانت العريش كالبدوية حادة الذكاء المطلوب منها إعداد «وجبة حياة» لعابرين قادمين لمساعدتها يقيناً، لكن «العشة» الخاوية بالأساس كانت تحتاج لمهارة استثنائية كى تخرج منها أطباق ساخنة ومياه وبعض من الونس الإنسانى، ولم تنقص تلك المدينة البدوية هذه المهارة العبقرية فاستطاعت أن تعد الوجبات المطلوبة طوال سنوات خمس، هكذا كانت تعيش وسط غبار الإرهاب الخانق.
بعد حادث الاغتيال الأخير تصادف لى إجراء ثلاثة لقاءات متباينة من دون ترتيب؛ ضابط شرطة يعمل بشمال سيناء وقادم للقاهرة حديثاً لتلقى فرقة تدريبية، وأحد أبناء العريش المغتربين ويعيش فى القاهرة مثل المئات غيره الذين خرجوا من مدينتهم وتفرقت بهم السبل فى المحافظات المصرية، هؤلاء خرجوا لأنهم مطلوبون للاغتيال فى سيناء من قبَل الإرهاب بسبب تناقضهم معه، ورفضهم المباشر تقديم أى عون له، بل ومحاربته والتضييق عليه لصالح وطنهم وأرضهم، ومن هؤلاء من تمت ملاحقته من قبَل التنظيمات فى ملاذاتهم المؤقتة وتم اغتيالهم هم وأسرهم، والبعض الآخر إن لم يكن معظمهم تم تدمير منزله أو مزرعته أو كليهما من قبَل الإرهابيين، والثالث مع أحد شباب الإذاعيين الذى سافر العريش فى مهمة عمل وعاد هذا الأسبوع، ثلاثتهم أثق فى عيونهم ولسانهم الوطنى الخالص، وكان سؤالى الواحد عن العريش: كيف تعيش المدينة وأنا من هنا أستشعر الخطر؟ ولم تكن الإجابات سوى استشعارهم جميعاً باتفاق كامل أن عاصمة شمال سيناء تعيش أزمة حقيقية، منهم من تحدث أن الأخطار أكبر مما نتصوره على السطح، وأن المجابهة تحتاج إلى تطوير شامل يعيد صياغة معادلة الأمن برمتها، وآخر تحدث أن العريش مدينة سكنها الحزن مؤخراً، وأن الإحباط والهم يسرى فى جنباتها كالقاتل الصامت تماماً، وأن كل حيل وذكاء البدوية الشجاعة قد نفدت منها من كثرة ما تراه من ألغاز لا تستقيم مع طبيعة الصحراء المكشوفة على المدى، وأحدهم بعد كم من شجن لا يُستهان به ذكر لى أن العريش تقاوم بالرغبة الصادقة فى الحياة، وتجلس مرهقة على شاطئها الخاص تنتظر الأمل وأن يعود إليها النخيل، هل نقلنا لكم صورة قاتمة وكثيراً من الألم، ربما هى نذر يسير من تفاصيل نتغافل عنها يومياً، رغم أن العريش مدينة مصرية تقف وحيدة على خط النار تتنفس الخطر، تسألنا أن نتشارك معها وجبتها أو بعضاً مما سكن ملامحها مؤخراً.