بدا «وجه الشيخ» واضحاً منذ الوهلة الأولى التى صافح فيها المصريون صورة الدكتور «محمد مرسى»، وهو يخطب خطابه الأول عقب انتخابه رئيساً للجمهورية. فها هى «البسملة» و«الحمدلة» والصلاة والسلام على النبى تتصدر كلامه، تماماً مثلما يفعل أئمة المساجد وشيوخ الزوايا فى خطب الجمع والأعياد. تدفق الصوت بعد ذلك مردداً الآية القرآنية: «قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ». المعنى الظاهر فى الآية الكريمة أن كل أمر فى هذا الوجود ينفذ بفضل الله وبرحمته، أما الرسالة المبطنة فتقول: «لقد اختار الله رجله»، صاحب الوجه «المستشيخ» الذى تتعدد أقنعته؛ فمرة يبدو الشيخ متقمصاً قميص «الواعظ»، ومرتدياً قناعه، ومرة يتزيا بقناع «الفقيه»، ومرة يرتدى قناع «الدرويش».
قناع الشيخ الواعظ كان حاضراً بقوة فى الكثير من المواقف التى اعتمد فيها «الرئيس» على منهجية «ترقيق القلوب» من أجل حل المشكلات؛ فالصراع بين الفرقاء والمتنافسين السياسيين لن يحل إلا بـ«الحب»، وتبادل «الأحضان»، والترفع عن «الأطماع»، و«إيثار» الآخر على النفس. والحالة الاقتصادية المتردية التى يواجهها المصريون ويشعرون بمرارتها، خاصة أيام العيد، لا حل لها سوى بالمبادرة بدفع الزكاة «اكفوهم السؤال فى يوم العيد»، ومواجهة تمرد أصحاب المحال التجارية على قرار إغلاق المحلات فى العاشرة مساءً، يمكن أن يتم بتنبيههم إلى الحرص على صلاة الفجر، وكيف تقتضى من المسلم أن ينام مبكراً ويستيقظ مع رفع أذان الفجر، ليقوم ويسعى على رزقه؛ لأن البركة فى البكور، والله تعالى يقول: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا»، ويسأل المواطنُ «الشيخَ الرئيس»: أين هذا العمل الذى يمكن أن نؤديه بالنهار فى ظل حالة البطالة والركود التى تسيطر على الأسواق؟ فلا يجد إجابة سوى تكرار الدعوة إلى الحب والمزيد من الأحضان.
ويبدو «الشيخ الرئيس» أكثر كفاءة عندما يرتدى قناع «الواعظ»، مما هو الحال عندما يلبس قناع الفقيه. الفقه يعنى القدرة على الاستنتاج والاستنباط، من خلال الربط بين الأحداث والمواقف والأفكار؛ لذلك فهو يحتاج عقلاً وفهماً ومهارة تُمكّن الفقيه من الاجتهاد والإتيان بالجديد. وقد خاب سعى «الشيخ الرئيس» حينما حاول ذلك. ولعل أبرز مثل على ذلك ما حدث عندما تصدى لتفسير الآية القرآنية: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»، فرفع المنصوب، ونصب المرفوع، وقال: إن معنى الآية أن الله تعالى يخاف من العلماء خوف التبجيل والاحترام، وذلك خلافاً للقراءة المتواترة لهذه الآية الكريمة، والتفسير الشائع لها بأن أهل العلم هم الأشد خشية لله. وقد ثارت ثائرة بعض علماء الأزهر على ضحالة الاجتهاد الذى قدمه الشيخ الرئيس، والذى أثبت به أنه لا يملك قدرات «الفقيه»، ويبدو أن تقليد الكاتب الراحل الكبير «توفيق الحكيم» طغى على تفكير الرئيس؛ لأن «الحكيم» كان أول من فاجأنا بهذا التفسير ذات يوم، وقلده فيه «شيخنا» الرئيس!
وجه الدروشة أو «البهللة» يبدو واضحاً فى ملامح الشيخ وحركاته، التى يعتريها الكثير من الغموض، وذلك شأن الدراويش والبهاليل فى كل عصر وحين، عباراتهم ألغاز، وألفاظهم أشبه بـ«الشيفرة»، يُظهرون الزهد فى الدنيا «أنا خادم الشعب»، ويضمرون الجوع إلى الاستحواذ على كل شىء، حتى ولو كان مجموعة من النياشين والأوسمة (لأنهم سادة العالم)، يداهنون من يخالفهم بمعسول الكلمات، ويضمرون له الشر المستطير فيما بينهم، كذبهم صدق، وصدق غيرهم كذب، نصائحهم هى الحكمة بعينها، حتى لو كان عين «الخرف»، وثغاء حملان، ومأمأة «خرفان». قناع «الدروشة» هو عدة عملهم حتى يظهروا أمام الناس فى ثوب الزهاد، تعلو أصواتهم بصرخات مدوية، ثم ترق فجأة، لزوم اللعب على أعصاب الجمهور، مرة يهددون بالغضب، وأخرى يؤكدون أنهم سيجعلون خدهم مداساً للآخر: «أنتم أهل السلطة ومصدرها».. «وليت عليكم ولست بخيركم».. «تكبير وتحميد».. «الله أكبر ولله الحمد».. هكذا تتدفق العبارات سخاء رخاء من فم «الدرويش»، متشبعة بالألغاز حتى تتخدر أعصاب المستمع، ليفقد عقله ويقع تحت سيطرته، مؤمناً أن «درويشه» هو الأفلج والأدعج، وكمان «الأبلج»!