الصعيد يمنح غالبية أصواته فى انتخابات البرلمان، ثم الرئاسة، للتيار الدينى، ثم يقول «نعم» لدستور ترفضه «العاصمة» -مركز «الدولة» وليس «القاهرة»- وتراه نخبتها تأميماً لمستقبل مصر، وحجر أساس لمشروع «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع».
للوهلة الأولى قلت، وقال كثيرون ينتمون إلى الصعيد: نحن أبرياء منه، ولن ندافع عنه بعد الآن... (كأننا كنا نترك أشغالنا وندوس على أحلامنا لنفديه بالروح والدم.. كأننا كنا نمثله بحق!).
للوهلة الأولى قلنا... (نحن العاقين بامتياز، المنبتّين، المنفيين فى ملكوت أنفسنا): لا يشرفنا أن ننتمى إلى هذا العالم المتخلف، السادر فى جهله وغبائه وعناده. هذا العالم الذى تبين لنا -فجأة!- أنه يستحق ما قيل ويقال فيه من «نكت» جارحة، مؤلمة، تقطع الشعرة بين الشىء ونقيضه: تسمى طيبة القلب «عبطاً» وسذاجة، والنخوة تطرفاً أعمى، ورباطة الجأش غفلة، والذكاء «فهلوة» فى غير موضع.
للوهلة الأولى قلنا: هذا ليس «صعيدنا»..
الصعيد الذى وُلدنا فيه، والتأمت أجزاؤنا بلحاء سنطه، ونحت الله وجوهنا من طينته المراوغة، وتحمصت أجسامنا تحت شمسه، وتخمرت عقولنا ومشاعرنا وشهواتنا فى خزائنه الرطبة، المعتمة، وخبأنا «بلهارسيته» اللعينة فى أكبادنا كل هذه السنين.. . ليس متديناً إلى هذا الحد!.
الصعيد الذى تعلمنا فيه أن «الكبير.. كبير» حتى بأخطائه، وأن للذكر حظ «كل» الإناث، وأن «الله» ضلع السلطة الثالث بعد «العُرف» و«الخرافة»، وأن الشرف عملة بوجهين: الأرض والعرض... ليس متديناً إلى هذا الحد!.
الصعيد الذى قدم للشعر العربى وللإنسانية واحداً من أنقى وأشرس الأصوات الرافضة، الناقمة، «أمل دنقل» -هذا الذى رفع سقف العناد إلى.. «خصومة قلبى مع الله»، ورد اعتبار الشيطان.. «معبود الرياح، من قال لا فى وجه من قالوا نعم»- ليس متديناً إلى هذا الحد!.
هناك مسحة «تدين» قديمة، واضحة وصادقة دون شك، لكنها ظلت حتى وقت قريب -ربما منتصف سبعينات القرن الماضى- جزءاً من «وجاهة» الصعيد، ودليلاً على رسوخ بنيته القبلية. هناك مسحة «تدين»، لكن «الدين» فى حد ذاته لم يكن بهذا القدر المفزع من التغول والشطط والديماجوجية.. فما الذى جرى؟.
كان لكل عائلة فى الصعيد، بصرف النظر عن حجمها وثقلها، «جامع»، أقامته من حر مالها وبجهود أبنائها. وكان لكل جامع خطيب أو إمام، إما من القرية نفسها أو من أخرى مجاورة، لكنه حتى إذا كان غريباً يصبح -بالعشرة وهيبة الوظيفة- عضواً فاعلاً فى العائلة صاحبة الجامع، وشريكاً -ربما- فى صناعة قرارها. وخلافاً لظاهرة «جامع لكل عائلة» قدم الصعيد سلسلة من المفكرين الإسلاميين والباحثين ورواد التنوير والعلماء الأجلاء، بعضهم شغل -ويشغل الآن- مناصب قيادية مهمة فى هرم السلطة بشكل عام، والمؤسسة الدينية الرسمية على نحو أخص. كما قدم -فى مجال قراءة القرآن وتلاوته- عدداً لا بأس به من أصحاب الأصوات الفخمة، مثل محمد صديق المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد. ولا يمكن بالطبع إغفال هذا الكم الهائل من الطرق الصوفية، والاحتفاء المبالغ فيه أحياناً بشيوخها وموالدها وطقوسها. لكن المفارقة أن هذا «الصعيد المتدين» هو نفسه الذى كان يضع «الدين» على الرف طوال عشرات، وربما مئات، السنين، إذا تعارض مع ما يحتمه العرف.. وما تقول به الخرافة: هو الذى يحرم المرأة من حقها فى تركة أبيها، وهو الذى يضطهد الأقباط فى أعماقه، ويعتبرهم «درجة ثالثة» بعد «العبيد»، وهو الذى يأبى أن تذهب المرأة إلى طبيب لأنه «حرام»، بينما لا يمانع فى جلوسها بين يدى دجال أو مشعوذ طمعاً فى «وصفة» تحل مشكلة عقمه أو عدم قدرتها على الإنجاب، وهو الذى يسمع كلام عمدته حتى إذا لم يكن «يصلى»، بينما لا يصدق ولا يستجيب لإمام الجامع حتى إذا تلا عليه القرآن بأكمله.
هذا هو «تدين» الصعيد: كان دائماً «ظاهرة اجتماعية» وليس «دينية» على الإطلاق، وكان «إسلام» الصعيد وسطاً بين «معتدل» و«راديكالى»، فما الذى جرى؟. لماذا أصبح الصعيد فرس رهان لكل من يرفع راية الدين حتى إذا كان فاسداً أو نصاباً أو جاهلاً بأمور هذا الدين؟. كيف انهار نمط «العائلة» إلى حد أن «أنصاف القوالب» -ممن كانوا حتى وقت قريب يعيشون على هامش هذا النمط ويستظلون بشجرته الهائلة- أصبحوا رموزاً سياسية واجتماعية واقتصادية نافذة، مسيطرة، يتطلع إليها أبناء العائلات العريقة بكثير من الغل والدهشة، لكنهم فى الوقت نفسه لا يجدون غضاضة -أو هم مضطرون- للتعاطى معهم، بل ونفاقهم أحياناً؟. هل انقلب الميزان وقُضى الأمر وأصبح الصعيد قاب قوسين أو أدنى من أن يكون «نطاقاً مؤمناً» إذا حدث وتم تقسيم مصر -وفقاً لما ذهب إليه مخرف سلفى مؤخراً- إلى محافظات «مؤمنة» وأخرى «كافرة»؟.
للوهلة الأولى فوجئت وصُدمت كغيرى من «صعايدة العاصمة»، ثم ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وتبين لى أن المسألة أبسط مما نتخيل. المسألة أن الشعب المصرى دفع، وسيظل يدفع ثمن تهميش الصعيد وتجاهل مشاكله وأزماته الطاحنة على مدى أربعين عاماً تقريباً. وبسبب هذا التهميش والتجاهل.. تحول «الثأر» من قصاص فردى تحكمه ضوابط وشروط اجتماعية متعارفة، إلى نوع من «الجهاد» ضد سلطة «الدولة»، ممثلة فى «نظام الحكم». وانحياز الصعيد للتيار الدينى، سواء فى الانتخابات أو فى الاستفتاء على الدستور، ليس استثناءً من ذلك. فالصعيد الذى قتل السادات فى 1981 وكاد يهدم النظام على رأس مبارك فى أوائل التسعينات.. لم يكن يدافع عن «تدينه»، ولم يفعل ذلك بوصفه «جبهة معارضة» بالمفهوم السياسى. لكن المشكلة هذه المرة أنه لا ينتقم من سلطة «الدولة»، بل من «الدولة» نفسها.