مصادفة مثيرة للانتباه.. يتفجر الجدل الدائر حول تسليم جزيرتى تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية ضمن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين القاهرة والرياض، فى فترة مواكبة لانعقاد مؤتمر مطورى «فيس بوك» فى سان فرانسيسكو يومى 12 و13 أبريل الحالى. ما أعلن عنه فى هذا المؤتمر يشكل نقلة نوعية، ستوسع من سيطرة وتأثير موقع التواصل الاجتماعى الأكثر شعبية فى العالم.
الجدل حول الجزيرتين ذو طبيعة سياسية، أما مؤتمر مطورى «فيس بوك» فيبدو حدثاً تقنياً بحتاً.. ما العلاقة بين ما هو سياسى وما هو تقنى؟
التكنولوجيا، خاصة مواقع التواصل الاجتماعى والهواتف الذكية، أثرت فى السياسة بشكل قوى خلال العقد الماضى، خاصة فى بلداننا العربية، حيث لم يتطور الفكر السياسى بالسرعة الكافية لمسايرة التغيرات التكنولوجية الجديد.
أزمة تيران وصنافير فى حد ذاتها ليست موضوعنا فى هذا المقال، لكن أذكرها كنموذج جيد يظهر كيف يمكن للأحداث أن تسير على مواقع التواصل الاجتماعى بصورة متسارعة وغير منطقية.
لقد تحرك قطاع كبير من مستخدمى «فيس بوك» فى مصر كـ«أسراب النحل الغاضب» تجاه وجهة نظر معينة، وبدا أن كل مستخدم منهم قد اتخذ قراره عن قناعة عميقة خلال دقائق، فى قضية لها أبعاد تاريخية، وجغرافية، وسياسية، وأمنية، كأنه خبير فى كل هذه الشئون.
المثير فى الأمر أنك إذا تحدثت مع بعض من اتخذوا موقفاً صلباً (مع أو ضد الاتفاقية)، وكان الحديث فيما بينكما أنتما الاثنين فقط، سوف تكتشف -فى الغالب- أن موقفه ليس بذات القدر من الحدة والتشنج الذى يتجلى فيما يبثه على شبكة التواصل الاجتماعى. سيتبين لك أيضاً أنه ليس عميلاً أو خائناً، أو أقل وطنية ممن هم فى المعسكر المقابل له.
ما السر إذاً فى هذا التباين؟
للإجابة عن هذا السؤال، أتذكر دراستين مهمتين، ربما نستنبط منهما تفسيراً منطقياً لما طرأ من تغيرات على سلوك الجماهير فى عصر شبكات التواصل الاجتماعى العملاقة.
الدراسة الأولى أجراها دانييل ريتشاردسون، الباحث فى كلية لندن الجامعية، حول مدى تأثر الإنسان بمن حوله عند اتخاذ القرار. فحسب ما نشره موقع «بى بى سى» العربى فى 22 مارس 2016، تحت عنوان «لماذا يصبح الناس أقل حنكة فى التجمعات؟»، فإن المشاركين فى التجربة، سجلوا الدخول على موقع إلكترونى صمم خصيصاً لهذا الغرض.
وجاء فى التقرير أن قواعد التجربة تقضى بأن يطرح الباحث سؤالاً على المشاركين، وعلى كل مشارك أن يحرك نقطة على جهاز الكمبيوتر الخاص به، يميناً للإجابة بـ«نعم»، ويساراً للإجابة بـ«لا». وعلى كل منهم أن يجيب عن السؤال الواحد مرتين، مرة على نحو مستقل، وأخرى بصورة جماعية، تظهر فيها الإجابات على الشاشة أمام المشاركين جميعاً، وقد بدت الإجابات الجماعية أشبه بـ«حركة سرب من النحل الهائج الغاضب».
وهذا الوصف يلمح إلى أن المشارك يحاول أن يكون داخل إطار المجموعة ذات الأغلبية، أو ما يسمى بـ«مسايرة الجماعة».
لم تعلن النتيجة النهائية للتجربة، لأنها جزء من رسالة دكتوراه لم تناقش حتى نشر التقرير، لكن الباحث أشار إلى أنه «عندما يتفاعل الناس مع بعضهم البعض ينتهى بهم المطاف إلى أن تتطابق آراؤهم وبأن يتخذوا قرارات أكثر سوءاً»، مضيفاً «إنهم لا يتبادلون المعلومات بل يتقاسمون التوجهات المتحيزة»، مؤكداً أن هذا ما تفعله مواقع التواصل الاجتماعى مثل فيس بوك وتويتر.
هذا يطرح سؤالاً آخر: هل يسير الأمر على فيس بوك بشكل طبيعى دون التأثير على مزاجنا وقراراتنا؟ بصيغة أخرى: هل تصميم طبيعتنا البشرية هو الذى يتحكم فينا أم يتم استغلال هذه الطبيعة والتأثير فيها من قبل إدارة الموقع؟
فى منتصف عام 2014 تم الكشف عن دراسة سرية للتحكم فى أمزجة مستخدمى فيس بوك بواسطة البرمجيات. أجريت الدراسة على 700 ألف من أعضاء الموقع خلال سنة 2012 دون علمهم.
تضع الدراسة مستخدمى الشبكة الاجتماعية فى مجموعات، وكان باستطاعة علماء البيانات أن يتحكموا فى المحتوى الذى يظهر فى صفحة الأخبار الخاصة بالمستخدمين (News feeds)، من خلال كلمات تعبر عن السعادة أو الحزن، ومن ثم يقومون بإظهار المحتوى فى الأعلى أو فى الأسفل، حسب المجموعة التى ينتمى إليها المستخدم.
اكتشف العلماء خلال التجربة التى استمرت لمدة أسبوع أن المستخدمين يتأثرون سلباً وإيجاباً حسب المحتوى الذى يظهر لديهم، وقد تجلى ذلك فى التدوينات التى كانوا ينشرونها، والتى عبر بعضها عن مشاعر حزن، فيما عكست أخرى إحساساً بالبهجة.
ووفقاً لما نشره موقع صحيفة «ذى أتلانتك» الأمريكية يوم 29 يونيو 2014، فإن محررة الدراسة، الدكتورة سوزان فيسك، أستاذة علم النفس بجامعة برنستون الأمريكية، وصفت الدراسة بأنها «مخيفة»، وأبدت تحفظات عليها، قبل أن يؤكد لها كتاب البحث أنهم حصلوا على موافقة الهيئة المختصة بمراجعة الأبحاث التى تجرى على البشر.
الدراسة السرية أثارت شكوكاً حول المزيد من البحوث التى قد تجريها شبكة التواصل الاجتماعى فى الخفاء. وأشار بعض المعارضين للدراسة -وفق تقرير لصحيفة «إندبندنت» البريطانية فى اليوم ذاته- إلى أن هناك مخاوف من أن تستغل بعض الجهات، مثل الحكومات، تلك الدراسات، للتلاعب بمشاعر المواطنين فى بلد معين.
هناك أيضاً مقال مهم للدكتور تيم كارى، الباحث والمتخصص فى الصحة النفسية بأستراليا، نشر يوم 23 أغسطس 2015 بموقع «سيكولوجى توداى»، تحت عنوان «سر التحكم فى الآخرين»، يؤكد فيه أنه يمكن التحكم فى سلوك الأفراد إذا عرفت ما هى «الجزرة والعصا» بالنسبة لهم، وأورد فيه أمثلة تبدو منطقية للغاية.
إلى جانب البرمجيات التى يمكن أن يتم التلاعب بها للتأثير فى مشاعرنا عند متابعتنا لصفحة الأخبار على فيس بوك، ما هى «الجزرة والعصا» التى يستخدمها الموقع للتحكم فى توجهاتنا؟ ربما يفسر ذلك ما جاء فى مدرج الاحتياجات البشرية الأساسية لعالم النفس الشهير إبراهام ماسلو، حيث تأتى الحاجة للحب والانتماء، والحاجة إلى التقدير (الذاتى وممن حولك)، فى الترتيب الثالث والرابع على التوالى.
وهذا بالضبط ما يمكن أن يحصل عليه الفرد عبر المجتمع الافتراضى فى فيس بوك، عندما «يساير الجماعة»، ويقدم آراء يتقبلها أكبر عدد ممكن من الناس، يقومون بضغط زر الإعجاب بما شاركه، أو يثنون عليه فى تعليقاتهم، أو يعيدون مشاركة ما نشره من محتوى، أو يستضيفونه فى برامج تليفزيونية أو على صفحات الجرائد، وما إلى ذلك. هذه هى «جزرة» فيس بوك.
أما العصى فهى السخط الذى ينهال على الفرد عندما يخرج عن السرب، ولا يجد سرباً آخر ينضم إليه، ويشعر داخله بالانتماء والحب والتقدير. لاحظ هنا، أيضاً، أن مارك زوكربيرج، مؤسس الموقع، رفض لفترة طويلة إضافة زر عدم الإعجاب (Dislike).
وحتى بعد الإعلان عن النية لإضافة الزر، قبل شهور، لم يخرج إلى النور، حتى ضمن التحديث الأخير الذى ضم تعبيرات أكثر تفاعلاً (الوجه الضاحك، والقلب، والوجه الغاضب، والوجه الباكى)، إضافة إلى زر الإعجاب التقليدى.
يبدو أن دراسته النفسية أخبرته بأن هذه العصا قد تكون قاتلة، وربما تكون طاردة للمستخدمين.
قد يفسر ما سبق سلوك الجماهير خلال سلسلة من الأحداث السياسية الفارقة التى مررنا بها، بداية من 25 يناير 2011 وحتى قضية تيران وصنافير.
المستقبل ينبئ بالمزيد من التأثيرات. أعلن زوكربيرج خلال المؤتمر عن حزمة من التغييرات التى من المتوقع أن تضيف إلى سيطرة «فيس بوك» على حياة الناس حول العالم. سنستخدم الموقع فى تصفح وسائل الإعلام على هواتفنا الجوالة بسرعة فائقة عبر منصة Instant Articles المذهلة، ونتابع البث الحى للفيديو عبر تطبيقاته المتطورة.
سيوفر علينا الذكاء الاصطناعى الوقت لحجز سيارة تاكسى، أو لطلب البيتزا عبر الماسنجر الخاص بـ«فيس بوك». باختصار، إنه سوف يسيطر على كل شىء فى حياة الناس، وسيصل إلى 5 مليارات مستخدم من أصل 7 مليارات حول العالم بحلول عام 2030.
المقبل ربما يكون أكثر صعوبة على الساسة إذا لم يتداركوا أن هناك تغيرات ضخمة قد حصلت فى صناعة القرار لدى الجماهير. الانعزال عن العالم ليس اختياراً عصرياً (كوريا الشمالية نموذجاً). الحديث عن نظرية المؤامرة والمخططات استهلك، ولم يعد له أى تأثير يذكر على الرأى العام.
التطورات التكنولوجية الكبيرة التى باتت جزءاً من حياتنا اليومية تحتاج إلى تطورات موازية فى الفكر السياسى والأمنى، تحتاج أيضاً إلى دراسة فى مجالات علم النفس والعلوم الاجتماعية الأخرى؛ لمعرفة تأثير الخطاب السياسى، ومفرداته على مستخدمى الموقع الذى لا يقف طموح مؤسسيه عند حد.