منذ سنوات، أقمت معرضًا لرسومي الكاريكاتورية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. في يوم المعرض، أحضرت اللوحات ووضعتها على أرض القاعة وظللت واقفًا أنتظر لفترة طويلة.
سألني أحد منظمي المعرض:
- ماذا تنتظر؟
فأجبته في بساطة:- ألن يشاهد هذه الرسوم أحد، كي يوافق على تعليقها؟
* * *
زار ديفيد أرنولد -رئيس الجامعة الأمريكية وقتها- المعرض بالمصادفة.. توقف عند رسم يهاجم الرئيس الأمريكي وسألني عن ترجمته. هز رأسه وابتسم حين شرحته له، وشكرني قبل أن يغادر القاعة. وكان واضحًا أنه لم يعجبه.
طوال الأيام التالية، ظللت أنظر لهذه اللوحة كلما دخلت المعرض، متعجبًا أن أحدًا لم يزلها.
* * *
حين زرت أخي في الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى، خرجت لأتجول حول البيت الأبيض.. فرأيت مظاهرة لجماعة دينية، تحرق علم أمريكا تهاجم الرئيس، وتضايقت لأنهم يشتمون العرب والمسلمين بألفاظ نابية.
شعرت بالغيظ فقررت الرد بشكل عملي. اتصلت بالشرطة "٩١١" وقلت لهم أن هناك جماعة تتظاهر و"تشتم" الحكومة وتهين رمز الدولة بحرق العلم الأمريكي على الملأ وأمام قصر الرئاسة. أي أنني أردت أن "ألبسهم قضية أمن دولة!".
ولم أفهم وقتها لماذا كانت الموظفة تسأل في إلحاح، وكأن هذا سبب المكالمة:
- هل اعتدوا جسديًا على أي شخص؟* * *
ذهبت لمقابلة واحد من العلماء الكبار -الذين تطبق أبحاثهم في مؤسسات كبرى حول العالم منها الجيش الأمريكي- في مكتبه بجامعة بنسلفانيا. وحين وصلت للمبنى المنشود، دخلت البوابة لأجد أمامي مكتب الاستقبال وخلفه حراس أمن يتحدثون مع بعضهم البعض.
دخلت متوجهًا نحو المصعد، وتباطأت قليلا وأنا أمر من أمامهم، حتى وصلت للمصعد و ضغطت زره.. ثم نظرت لهم وأنا أدخله كي أتأكد، قبل أن ينغلق بابه خلفي. فلم أعتد أن أدخل مكانًا كهذا دون أن يستوقفني أحد قائلَا في استنكار:- رايح فين يا أستاذ؟* * *
تترك الحياة في العالم الثالث آثارًا غائرة في نفوسنا دون أن ندري.. فبديهياتنا ليست كذلك في كل مكان و زمان، ومن الحماقة أن يعتقد الإنسان أن ما اعتاده هو حقائق كونية تنطبق على الجميع..
لا أعزف هنا على نغمة عقدة الخواجة وتقليب المواجع، بل بالعكس تماما.. ما أريد قوله هو أن إنسان العالم الثالث لديه فرص رائعة ليست عند سواه، ليقدر الحياة ويشعر بالسعادة أكثر من غيره.. فكثير من الأشياء التي يراها الآخرون عادية، قد تكون سببًا في انبهاره و سعادته.
خذ عندك مثلًا.. كان صديقي -الذي سافر ليعيش في الخارج مؤخرًا- يبحث عن مكان ليركن فيه سيارته.. و بعد فترة، وجد مكانا أوقف فيه السيارة و غادرها مبتسما.. إذ شعر بالسكينة الروحية واطمأن قلبه وانتشى وجدانه واستشعر جمال الحياة ولمس معنى الوجود.. لأن أحدًا لن يخرج له من المحل المواجه للسيارة محتجًا:- ده أكل عيش يا بيه.