فى الرابع والعشرين من ديسمبر 2011 أجريت لى جراحة «زرع كبد» فى مستشفى «وادى النيل» التابع لجهاز المخابرات العامة. ليس كبداً كاملاً، بل «فص» واحد تبرع به شاب فقير كان يعانى ضائقة مالية. أصبحنا -أنا وهذا الشاب- نتقاسم كبداً واحداً، لكن حظى من «الألم» أفضل منه بكثير. وبعد أكثر من سنة.. ذاب «الفص» ولم يبق من الجراحة سوى أطياف من تلك اللحظات الحرجة، حين كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت.
[1]
كبدى يا ابنى...
تقول الأم لولدها (أو لمن فى سن ولدها) إذا مسه الشر أو اقترب منه. وكان مسحراتى أعمى فى عصر الراديو يضرب طبلته الصغيرة ليعيد عفاريت الرغبة إلى جحورها: «وكل حتة من كبدى حتة من موال». وطلبت «هند بنت عتبة» من قاتل «حمزة»، عم النبى «محمد» صلى الله عليه وسلم، أن يشق جوفه ويأتى إليها بكبده لتأكله نيئاً..
ما كل هذه القداسة؟
قال لى أحد أساتذة الجراحة قبل بضعة أسابيع من «الزرع»: «الكبد مدينة صناعية متكاملة، كلما تعطل مصنع مات جزء من جسدك». لكنه لم يكن موتاً تقليدياً. كان رحلة ألم ساعتها بألف سنة، وكانت الروح تتقلب فى وعائها هذا كطائرٍ أثقلته خطاياه. تتأمل المسكينة حصونها وهى تنهار حصناً وراء الآخر: سيولة فى الدم يعقبها نزيف. دوالى مرىء تقابلها بواسير. ستة كيلو جرامات من المياه الصفراء تحت الجلد وفى فضاء البطن. قلب مضطرب وذهن كسول وعينان غائمتان تتطلعان إلى خمسين عاماً مضت فلا تريان يقيناً أو جدوى.. ولا أمل. كنت أتألم والناس حولى صامتون. أعض لحم الوسادة وعظام السرير وهم يرطنون: اثبت. تحلَّ بصبر الأنبياء. كلما تألمت خفّت ذنوبك. وكنت أقول لهم: «خذوا ما بقى من عمرى واتركوا لى ساعة واحدة بلا ألم. خذوا هذا الألم واتركونى أدخل جهنم بكامل إرادتى». كنت أتأمل روحى وهى تشب من وعائها لتغفو قليلاً على كتف هذا وتختبئ فى حضن ذاك.. فأبكى: «كيف يكون الألم طوق نجاة؟. كيف يكون الله رحيماً وثمن الجنة باهظ هكذا؟». فجأة.. أصبح الزغب ريشاً واكتست العظام لحماً فطارت الروح. لم تصدق أن الله قريب إلى هذا الحد إلا حين قرأت بيانها فى اللوح: «الكبد أيقونة الجسد».
[2]
عادوا بعد الجراحة..
قالوا كلاماً جميلاً وذهبوا إلى أشغالهم. كانوا يتحدثون من أعماقهم، لكنهم يطلون على جسدى -وهو يتأرجح بين هبو جهنم وعطر الجنة- من كوة صغيرة فى باب «زنزانة الألم». كانت الروح تلهث بين الجدار والجدار بلا جدوى، وعندما تتعب تعود إلى زجاجة المحلول وتمشى متعبة فى الوريد، وكانت المسافة بين الجدارين أطول مما بين بياض السرير وعتمة القبر. كانت روحاً مدللةً، شكّاءةً بطبعها، لا تصبر على ألم ولا تخدعها طبطبة، وكانوا يقولون لى دائماً: «أنت أحسن من غيرك لأنك خرجت من المحنة حياً». كانوا يقولون ذلك وعيونهم شاخصةً إلى «أعلى» فى امتنان بالغ، لكنهم لا يدركون أنهم يضيئون شمعة حطها أنبياء سابقون فى كعكة الألم.. كم كنت أتمنى أن يطول هذا الموت العابر قليلاً لأستمتع بعريى أمام الله!
[3]
ظل صوتى ضائعاً أكثر من شهر..
لم أعرف قيمة صوتى إلا عندما كان الأطباء يحيطون بـ«سرير الحالة» ويرطنون بإنجليزية لا يفهمها غيرهم. يسألنى الدكتور «محمود المتينى»، رئيس فريق الجراحة: «هاه.. كيف حالك اليوم؟». فأقول باليد وملامح الوجه وارتعاشة الجسم: «زفت»!.. ثم أشير إلى حنجرتى وأطلب منه أن يقترب وأفح فى أذنه: «أريد صوتى يا دكتور. حرام عليكم. أم أنها مقايضة.. الصوت مقابل الكبد»؟. فيقول مبتسماً وهو يغلق باب الغرفة: «انت زعلان على صوتك ليه؟.. انت ناوى تغنى»؟
[4]
غرفة العناية المركزة..
هذا المكان البارد، السحيق، وأنا ساقط فيه إلى ما لا نهاية، مغمض العينين، لا أسمع سوى صوت سقوطى.
أول ما وقعت عليه عيناى وأنا فى هذا البرزخ.. ساعة حائط: السادسة والنصف وسبع دقائق.. أذكر ذلك جيداً. لوّحت للممرضة فاقتربت. سألتها بذلك الفحيح الخانق: «فى أى وقت من أى يوم نحن؟». قالت: «نحن فى صباح الأحد». يا لسوء الحظ إذن... لم أمت سوى عشرين ساعة أو أكثر قليلاً. هذا بالكاد وقوف على حافة الموت. بقيت لى -إن لم يكن باب الآخرة مغلقاً بإحكام- يقظة أخيرة فى خدر الأدوية. يكفى يقظة واحدة لأتأكد -وإن كنت واثقاً- أن الله سيكسب الرهان ولن أخذله أمام خادمه المعاند.. إبليس.
[5]
أحببت «سميرة».. ممرضة العناية المركزة.
لها يدان مدربتان، اجتُزئتا من فكرة الألم، وبديهتها قريبة: «اتكئ على مودة كتفى وأدر ساقيك تسعين درجة والمس الأرض. اشعر بحنانها واخترع ألفة جديدة بينها وبين جلد قدميك. افتح عينيك جيداً وأنت صاعد إلى هاويتك (تقول «صاعد» التزاماً بتقاليد مهنتها) واحذر. إذا أردت أن تقف على استقامتك فلا تنظر إلى قاع البئر لأنك لن تراه أبداً». كنت مشفقاً على «سميرة» من تقاليد مهنتها. كانت تروح وتجىء بين عورات المرضى دون أن تجفل أو تتقاعس. كدت أسألها مرة وهى تسلت خرطوم القسطرة من سوأتى: كيف تعاشرين زوجك يا سميرة؟.. بم تشعرين؟. لكننى شعرت بلهب مفاجئ فى حوضى.. فنسيت.
[6]
«أنا طيب جداً يا دكتور، وكسول إلى حد الغفلة، لكن الألم يلاحقنى كما يلاحق الفهد ظبياً ناشئاً فى قفص، وأريد يقظتى لأقاومه». يقول الطبيب غير عابئ: «ألمك يخصك وحدك.. أما جسدك فيخصنى». يقول متفلسفاً بعض الشىء: نحن نميت «كُلَّك» لنحيى «جزأك». ندمر المدينة لنخليها لـ«غريب» ربما يعيد إعمارها، فاطمئن.. روحك معلقة إلى جوارك (ويشير إلى حامل المحاليل).