مصر كدولة عرفت الحضارة منذ عهد سحيق، وكانت لها تشريعاتها المتكاملة منذ زمن بعيد. فقد عرفت مصر الفرعونية المدونات القانونية منذ آلاف السنين، وقبل أن يعرف الغرب الكتابة ويستعملها بقرون عديدة. وعدد المؤرخ الإغريقى ديودور الصقلى ستة من كبار المشرعين فى مصر على الترتيب الآتى: الملك «مينا» موحد القطرين، والذى أصدر أول مجموعة قانونية فى مصر قبيل الألف الرابعة قبل الميلاد، وعرفت باسم «تحوت» إله القانون. والمجموعة الثانية هى مجموعة الملك «ساسوجيس» من ملوك الأسرة الرابعة فى النصف الثانى من الألف الثالثة قبل الميلاد. وفى عهد ملوك هذه الأسرة شيدت أهرامات الجيزة. والمجموعة الثالثة هى مجموعة الملك «سيسوسيس» ويرجح العلماء أنه «سنوسرت» أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة. والمجموعة الرابعة أصدرها الملك «بوكخوريس» من الأسرة الرابعة والعشرين. أما المجموعة الخامسة، فقد أصدرها الملك «أمازيس» من الأسرة السادسة والعشرين. وآخر مجموعة صدرت فى عهد الملك «دارا» من الأسرة السابعة والعشرين. وبالإضافة إلى هذه المدونات، حفظ لنا التاريخ بضعة قوانين مهمة، أشهرها قانون «حور محب» مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، والذى تم اكتشافه بجوار بوابة حور محب فى معبد الكرنك بالأقصر، منقوشاً باللغة الهيروغليفية على لوحة حجرية تهشم كثير من أجزائها، ووجدت نسخة أخرى من هذا القانون فى أبيدوس.
وفى مصر الفرعونية، كان للعدالة عميق الأثر فى جميع نواحى حياة الإنسان المصرى القديم، ووصل به الأمر من فرط اهتمامه بها إلى اعتبارها من مقدسات الجماعة، وجعل لها آلهة وأطلق عليها «ماعت».
وفى العصر الحديث، ومع انتقال القوانين الغربية، خاصة القانون الفرنسى، إلى دنيا التشريع المصرى، كان لمصر الريادة التشريعية فى العالم العربى، حيث تأثرت التشريعات الصادرة فى معظم الدول العربية بالقانون المصرى. وللتدليل على ذلك، يكفى أن نذكر المادة 922 من القانون المدنى الليبى، بنصها على أن «الأرض التى تتكون من طمى يجلبه النهر بطريقة تدريجية غير محسوسة تكون ملكاً للملاك المجاورين». وتحت عنوان «الأراضى التى يحولها النهر أو ينكشف عنها»، تنص المادة 925 من ذات القانون على أن «الأراضى التى يحولها النهر من مكانها أو ينكشف عنها، والجزائر التى تتكون فى مجراه تكون ملكيتها خاضعة لأحكام القوانين الخاصة بها». ولعل ما يسترعى الانتباه هو التطابق التام بين نص المادتين سالفتى الذكر ونص المادتين 918 و921 من القانون المدنى المصرى، مع اختلاف بسيط يتمثل فى أن مواد القانون الليبى قد وردت جميعاً معنونة بخلاف مواد القانون المدنى المصرى. والواقع أن هذا التطابق بين القانون المدنى الليبى والقانون المدنى المصرى شامل لكل أحكام القانونين. ولما كان القانون المدنى المصرى هو الأسبق صدوراً، لذا يبدو طبيعياً القول بأن المشرع الليبى هو الذى اقتبس أحكام القانون المدنى من نظيره المصرى. وقد وصل هذا الاقتباس إلى حد نقل أحكام القانون المدنى المصرى كاملة، بما فيها حكم المادتين 918 و921، على الرغم من عدم وجود أنهار فى الدولة الليبية.
ولقد لعب بعض فقهاء القانون العظام دوراً فى تعظيم القوة الناعمة القانونية لمصر فى العالم العربى، ويأتى على رأس هؤلاء الفقيه القانونى الكبير الدكتور عبدالرزاق السنهورى. ففى سنة 1935م، سافر السنهورى إلى العراق بدعوة من حكومتها، فأنشأ كلية للحقوق، وقام بإعداد مشروع القانون المدنى، ووضع عدداً من المؤلفات القانونية لطلاب العراق. ثم سافر بعد ذلك إلى سوريا، وبدأ وضع مشروع القانون المدنى لها. وسافر إلى ليبيا بعد استقلالها، حيث وضع لها قانونها المدنى الذى صدر سنة 1953م. وأثناء اعتزاله الحياة العامة فى الفترة من سنة 1954م حتى وفاته عام 1971م، استطاع إنجاز مؤلفه الشهير «الوسيط فى القانون المدنى»، الذى يتكون من أحد عشر جزءاً، وسافر مرة وحيدة إلى دولة الكويت سنة 1960م، تلبية لدعوة أمير هذه الدولة الخليجية الشقيقة، واستطاع خلال هذه الزيارة وضع دستور الكويت واستكمال المقومات الدستورية القانونية التى تؤهلها لعضوية الأمم المتحدة.
وفى الختام، لا يفوتنا أن نشير إلى أن العديد من رجال القانون فى الدول العربية قد درسوا القانون سواء فى المرحلة الجامعية أو فى مراحل الدراسات العليا والدكتوراه بالجامعات المصرية.
* أستاذ القانون الجنائى بجامعة القاهرة