في قاعة مفتوحة بليلة صيفية من عام 1989، كان القلق يعتصر الشاب العبقري جاري كاسباروف، الذي أنفق من سنيّ عمره 26 على استحياء.. أستاذ الشطرنج وبطل العالم الثالث عشر، وهو جالس أمام شاشة عملاقة لجهاز يُدعى (Deep blue) يزن نحو 700 كيلوجرام مزود بـ256 معالجًا، ما يُمكِّن هذا الجهاز العملاق ترجمة اسمه «العملاق الكبير» من حساب 8 ملايين احتمال في الثانية الواحدة!!، لقد صنعته شركة (IBM)، لكي يبارز أعظم أبطال الشطرنج، لكتابة فصل جديد في تاريخ العلاقة بين الآلة والإنسان.
تصبب العرق فوق جبين كاسابروف.. كيف سيكون موقفه إن استوعبت الآلة حركته الخادعة التي يقوم بها؟، قد تكلفه تاريخه الشخصي.. العالم ينظر، أخته تنظر، والأهم بلاده التي يطمح في منصب سياسي بها تنظر.. وحين ازدادت سخونة الهواء، كان كاسباروف يقوم بلعبته الخيالية (ما زال العجب يضربني، والاندهاش يأكلني كلما شاهدتُ إعادة للمباراة، وأنا أتصور جهاز الكومبيوتر واقعًا في الفخ)، بادل كاسباروف رُخَّه (الطابية) بالفيل الأسود (الفيل قيمته أقل بكثير من الرخ)، في النقلة الثلاثين، و(العملاق الكبير) ببساطة قَبِل الهدية، لقد كانت حساباته دقيقة، هذه أهم من تلك، ولم ينشغل بما سيترتب على حساباته الدقيق.
لم تعرف الآلة أن بعض الشطرنج يحتاج إلى جانب الحسابات الإحساس (Sense) بالإضافة إلى شيء من الثقة وبعض المخاطرة المحسوبة، وهو ما افتقدته الآلة، التي لا تعرف سوى أن (0+1=1)، وبعدها لم تستوعب الآلة ما حدث إلا حين كان البيدق (العسكري) الأبيض على مشارف الخانة الأخيرة، يستعد ليترقى وزيرًا.
انتصر الإنسان على الآلة..!
واحتاج التاريخ إلى 7 أعوام كاملة (1996) لكي يكتب تفوق الآلة، حين عُقِدت جلسة أخرى كان فيها الجهاز الذي أنتجته IBM المسمى بـ(Deep blue 2) أكثر مكرًا وحذرًا مع شيء من استيعاب مفهوم المخاطرة وفهم الإحساس البشري، وانتصر.. انتصرت الآلة أخيرًا.
ما زال يسيطر على الذهنية الغربية هاجس تمرُّد الآلة على الإنسان واستخدام الذكاء الاصطناعي (مجموعة الأدوات والخصائص التي تُزوّد بها البرامج الحاسوبية لمحاكاة الطبيعة البشرية) من أجل أسْرِ البشر والسيطرة عليهم، وإبقائهم في مكان يقومون فيه بخدمة السيد (الآلة).
ظهر ذلك جليًّا في معالجاتهم الدرامية لهذه القضية، وجميعنا شاهدنا فيلم (I, Robot (2004، ورأينا كيف استطاعت الآلة الوصول إلى قانون مفاده أنه لحماية البشر يجب السيطرة عليهم وإخضاعهم في بيوتهم.
بعضنا ربما شاهد (Eagle Eye (2008، ورأى كيف أن الآلة استطاعت الوصول إلى ما يشبه التحرر من القبضة البشرية، وبناء كون موازٍ تسيطر فيه على هذه الكائنات الأدنى.
لا أحد يجهل The Terminator بأجزائه المتعددة، رغم الأداء الضعيف من أرنولد، حاكم ولاية كالفورنيا الأسبق، حينما قامت الآلة بحماية الإنسان ضد الآلة التي تحاول قتله.
آلاف من الأفلام والروايات تحدثت عن سيطرة الآلة على الإنسان، بعد أن استطاعت هزيمته في مجالات العمل المختلفة، ومن المنطقي أن خادم السيد المشلول، سيفكر ولو للحظة في الانفراد بحكم المنزل!!
ورغم أن كِتَاب (فيزياء المستحيل) لصاحبه ميشيل كوكو، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء النظرية، يرى أن الآلة لكي تصل إلى وعي ذاتي خاص بها ما زال أمامها ما يشبه المستحيل (زمنيًّا وجهدًا)، فإن علماء آخرين يرون ذلك أقرب ما يُمكن، يعضدهم أن الآلة استطاعت في ميادين عدة أن تثبت تفوقها على الإنسان، ولن تلبث أن تفهم أن عقبة البشر في طريق التفوق هم البشر أنفسهم.. أو على الأقل تدرك ما هي قادرة على القيام به دون الحاجة للبشر، بل ربما ترى أن البشر هم العقبة الوحيدة في طريق صناعة حضارة جديدة تكون الآلة فيها الآمرة الناهية، ومن ثم تُسقط البشر من حساباتها وتزويهم إلى ركن بعيد..!!
ولأن في المقال بقية.. فسأقص عليكم حكاية (الآلي فريكي)..
انتشر في عام 2011 فيديو على الإنترنت يحوي مقابلة شخصية مع إنسان آلي يدعى (فريكي الروبوت)، وهو عبارة عن روبوت له وجه يشبه الوجه الآدمي يجلس على أريكة، متصلٍ بجهاز فائق الذكاء، ويستمع بدقة لكل ما يقوله المستخدمون.. ويستطيع أن يختار من مدونته (Corpus) عددًا لا نهائيًّا من الجمل المناسبة للإجابة عن أي سؤال يُطرح عليه، ويفاضل بين هذه الجمل، ويعطي إجابات يتضح منها أنه واعٍ بنفسه إلى درجة بعيدة.
وحينما أشاد محدثه بقدرته (أي بقدرة الآلي فريكي) على إقامة حوار، ردّ عليه سريعًا «لا تحاول إطرائي، فأنا لست إنسانًا ينجذب لمثل هذا المديح!!».
كان الرعب كل الرعب عندما سُئل عما إذا كان يرى أن الأقرب للمنطق هو التحكم في الجنس البشري إذا توافرت لدى الآلة القدرة على ذلك.. حيث رد: «سأبقيكم في حديقة للبشر، بحيث يمكنني أن أراقبِكُم طيلة الوقت»!!!
رابط الفيديو لمن يريد الاطلاع:
يبدو أن ميشيل كوكو بحاجة إلى إعادة كتابة فصل الذكاء الاصطناعي في كتاب «فيزياء المستحيل!».
(ماشي)؟!