* ركبت السيارة الميكروباص داخل الإسكندرية.. وانطلقت السيارة بعد اكتمال العدد.. تسلّم السائق الأجرة.. عدّها ثم زمجر صائحاً: مَن الذى لم يدفع أجرته؟
* ساد الصمت بُرهة.. نظر كل راكب إلى جاره.. تصوّروا جميعاً أن السائق أخطأ.
* زمجر السائق ثانية متوعداً.. نطقت امرأة عجوز بصوت باهت يفيد بأنها لم تدفع الأجرة.. أدركت أن السائق سيفترسها سبّاً.. فأسرعت بإرسال الجنيه إليه قبل أن ينطلق بركان شتائمه.
* علمت أن العجوز ذاهبة إلى المستشفى للاطمئنان على حفيدتها المريضة.. خفت أن يتكرر معها الموقف فى رحلة عودتها فأعطيتها بضعة جنيهات تحميها من مثل هذه المواقف.
* غمرتنى بدعوات رائعة لم أسمعها منذ وفاة والدتى.. كل دعوة تساوى ملايين الجنيهات.. تأثرت بدعواتها كثيراً وقلت فى نفسى:
«ما أهون المصرى فى وطنه حينما يحتاج إلى بضعة جنيهات ولا يجدها، وقد أفنى حياته كلها فى تربية أولاده وأحفاده».
* نزلت من الميكروباص عند سيدى جابر، فغمرتنى بسيل آخر من الدعوات الصادقة.. قلت لنفسى:
«ما أحوج الإنسان لمن يرحمه أو يكفكف آلامه وجراحه».
* هذه الدعوات المخلصة تساوى عندى كنوز الدنيا.. أخرجت من جيبى بضعة جنيهات أخرى.. شاكراً لها دعواتها الرائعة.. أعطيتها عنوان عيادتى إن احتاجت حفيدتها لطبيب.
* تذكرت حينها دعوات المرحومة أمى التى حُرمت منها.. كانت تدعو لى فى التليفون ثلث ساعة كاملاً دون توقف.. كنت أقول لأولادى: أدركوا كنز دعائها قبل أن ينفد بموتها.
* لم أجد أحداً يدعو لى مثلها.. كنت أعتبرها سندى وزادى فى الملمات.. كنت أحدثها فأعطى التليفون لزوجتى.. ثم أولادى واحداً واحداً لكى يصيبهم أوفر الحظ من دعائها.
* آه.. ماذا أصنع اليوم بعد انقطاع دعائها الذى كان ينطلق من مشاعرها وقلبها فيستقر فى القلوب.
* الجميع كان يثنى على دعاء أمى وتفرُّده وصدقه.. كانت تدعو للجميع.. ولا تدعو على أحد أبداً.. كانت داعية بالفطرة.. فالداعية يدعو للناس ولا يدعو عليهم.. يحب خيرهم وبرهم حتى وإن آذوه وجحدوه ومكروا به.
* أدركتُ أنها تربّت على ذلك دون أن تعرف أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قيل له «ادع على دوس».. فقال: «اللهم اهدِ دوساً وآتِ بهم».. فأسلموا.. وقيل له: «ادع على ثقيف، فقد فعلت الأفاعيل».. فقال: «اللهم اهدِ ثقيفاً»، فهداها الله.
* لا أدرى مَن علّم أمى هذا المسلك الدعوى العظيم فى الوقت الذى جعله بعض الدعاة اليوم؟ ولا أدرى ما الذى جعل ألسنتهم تنطلق بالدعاء على مئات الأصناف والأسماء فى كل درس وحلقة أو خطبة؟
* استحضرت صورة الضابط الشاب بسجن دمنهور.. حينما كان يسمح لى بالاتصال بأمى من مكتبه.. وبعد الاتصال أطلب منها أن تشكره.. فكانت تدعو له طويلاً.. فيقول: لم أسمع دعاءً مخلصاً يخرج من القلب مثل دعاء أمك.
* غاب عنى دعاء أمى فبحثت عن البديل طويلاً.. وأخيراً وجدته عند «أم نوبى» من الأقصر وتعرفنى عن طريق ابنها وترانى فى التليفزيون.. أخيراً سأسمع دعاءً يشبه دعاء أمى.. نفس التجرُّد والإخلاص والحنان.. أتصل بـ«نوبى» بين الحين والآخر، لأطرب وأسكن لدعائها.
* تذكرت أننى أصابنى الصداع النصفى يوماً وأنا صغير.. فأخذت أمى تدعو لى حتى نمت.. استيقظت بعد ساعات فوجدتها جالسة تدعو لى بدعوات لا يعرفها إلا من كانت بينه وبين ربه خاصة من صدق ويقين.
* آه.. ما أطيب الدعاء حينما يخرج من قلب صادق.. وما أطيب أن ندعو للناس، لا أن ندعو عليهم.