يكشف المشهد العام عن فجوة متسعة بين السياسة والتكنولوجيا، مواقع التواصل الاجتماعى، والهواتف الذكية، زلزلت القواعد والأدوات التى اعتمد عليها الساسة بنجاح على مر التاريخ فى علاقاتهم بالجماهير، ما زالت السياسة تحاول استيعاب ما سببته التكنولوجيا الحديثة من تأثيرات على سلوك الجماهير، وهذا ينطبق على الدول المتقدمة والنامية بنسب متفاوتة.
على سبيل المثال، فى الولايات المتحدة، هناك دراسات حديثة أوضحت أن المناظرات العامة، التى ظلت المصدر الأهم فى تكوين رأى الناخبين فى مرشحى الرئاسة على مدار أكثر من 50 عاماً، تأثرت سلباً نتيجة استخدام المشاهدين لمواقع التواصل فى ذات الوقت الذى يشاهدون فيه المناظرة على شاشات التليفزيون، وهو ما يخفض حجم استيعابهم لحديث المرشحين الرئاسيين، هذا يعنى ببساطة أن التكنولوجيا الحديثة أفقدت المرشحين الرئاسيين جزءاً من قدرتهم على التأثير فى الناخبين.
فى المقابل فإن الرئيس الأمريكى باراك أوباما استطاع أن يصل إلى شرائح أكبر فى المجتمع الأمريكى، ويزيد من تأثير خطاباته عبر مواقع التواصل الاجتماعى. التكنولوجيا الحديثة وفرت لكل مواطن ميكروفونه الخاص. صورة الزعماء السياسيين، الذين يمسكون بالميكروفونات، ويتحدثون إلى جماهير لا تعرف إلا الإنصات والتصفيق، فى الميادين، وعبر شاشات التليفزيون، لم تعد موجودة إلا فى بلدان خارج الزمن.
يمكن هنا أن نتحدث عن ثلاث مدارس رئيسية تتبعها الدول فى التعامل مع التأثيرات التى أحدثتها التكنولوجيا على السياسة والجماهير:
(1) المدرسة العلمية: تستخدم أسلوباً حديثاً فى التعامل مع المعطيات الجديدة، فهى تقوم بدراسة تأثيرات التكنولوجيا على سلوكيات الجماهير وقراراتها، وتضع تصورات متعددة للتعامل مع تلك التأثيرات.
تنجح هذه المدرسة فى تقليل مساحة الفجوة بين السياسة والتكنولوجيا، وقليلاً ما تتعرض لهزات اجتماعية أو سياسية خطرة نتيجة ذلك.
يمكن أن نضع الولايات المتحدة على سبيل المثال ضمن المدرسة الأولى. الجامعات، والمراكز الفكرية (Think tanks)، والإعلاميون، يقومون بدراسة وتحليل مستمر لتأثيرات التكنولوجيا.
تعرضت أمريكا إلى «زلازل» سياسية قوية على مر السنوات الماضية بسبب ما كشفته ثورة تكنولوجيا المعلومات للجماهير من انتهاكات وفساد، كان يمكن أن تتسبب فى أحداث شغب واسعة، وربما ثورة شعبية لو حدثت فى بلدان أخرى، لكنها استطاعت أن تتجاوز تلك الأزمات، بتكاليف بشرية، واقتصادية، وسياسية محدودة للغاية، أو منعدمة.
على سبيل المثال: ما تم تداوله على الإنترنت من تسريبات ويكيليكس، واحتجاجات حركة «احتلال وول ستريت» التى رفعت شعار «نحن الـ99%»، وأخطاء الحكومات المحلية والفيدرالية فى التعامل مع الأعاصير وضحاياها، وسلسلة الانتهاكات التى ترتكبها الشرطة الأمريكية بشكل شبه منتظم.
(2) المدرسة الاستبدادية: تتوجس من أى جديد. إعطاء صوت لمن لا صوت لهم يعد خطراً وجودياً بالنسبة لها، ترى أن أى تجمعات، حتى ولو كانت افتراضية تهدد سلطتها، تناقل المعلومات خارج قنواتها الرسمية المفلترة، قد يكشف عورتها، تحرص على أن تمنع الشعب من استخدام التكنولوجيا الحديثة.
هذه المدرسة تتبناها دول تقف فى وجه العلم والتطور، وتعيش خارج التاريخ، لا تعتريها هزات سياسية غالباً، تبدو مستقرة، ولكن استقرارها فى قاع العالم، أوضح مثال على ذلك هو كوريا الشمالية، بها أصغر نسبة لمستخدمى الإنترنت فى العالم، قرابة 7 آلاف فقط. لا تعرف بيونجيانج تمرداً سياسياً، ولا مظاهرات، ولا صحافة حرة، لا يستخدم شعبها السوشيال ميديا ولا الهواتف الذكية. لا يشعر الكوريون الشماليون بأن هناك فجوة بين السياسة والتكنولوجيا، لأن الشعب معزول تماماً عن كليهما.
(3) المدرسة الوسطية: هى مدرسة منفتحة أمام كل ما هو جديد، لكنها أيضاً حذرة ومتوجسة، تلك المدرسة لا تُخضع الفجوة بين السياسة والتكنولوجيا للدراسة، وبالتالى لا تستفيد من مزاياها، وتعانى من هزات سياسية مستمرة. تنتمى مصر للمدرسة الوسطية، وهناك محاولات من بعض النواب البرلمانيين، والإعلاميين، لدفع الدولة دفعاً إلى تبنى منهج المدرسة الثانية (الاستبدادية)، ولكن يبدو أن الحكومة تدرك مخاطر ذلك وترفضه، فحسبما يتضح من تصريحات حديثة لوزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ياسر القاضى، فإن الدولة لن تراقب ولن تغلق شبكة التواصل الاجتماعى «فيس بوك». لا شك فى أن للتكنولوجيا إيجابيات كثيرة، ولها أيضاً تأثيرات سلبية على قرارات الجماهير وسلوكياتها، هذه السلبيات تتزايد باتساع الفجوة بين السياسة والتكنولوجيا، وتنخفض كلما تمت دراسة الظاهرة والتعامل معها بشكل علمى.