تذكرت فيلم «قنديل أم هاشم» خلال متابعة أزمة نقابة الصحفيين مع وزارة الداخلية. الرجعية (فى أثوابها الطبى والسياسى والمهنى) هى العنصر المشترك بين الفيلم الذى تعود أحداثه لبدايات القرن الماضى، والواقع الذى نعيشه اليوم فى القرن الحادى والعشرين. العلاج بزيت قنديل أم هاشم ما زال أسلوب حياة لدينا فى مصر.
فى الفيلم، المستوحى من رواية للأديب الكبير يحى حقى، يتعرض إسماعيل -الشاب البسيط الذى أنفق والده كل ما لديه ليعلمه الطب فى أوروبا- للصدمة حين يعود لوطنه ويرى كيف يعالج أهله ومريدو مقام السيدة زينب من القرويين البسطاء عيونهم بزيت القنديل المستعمل الذى يعتقدون أنه «بركة» من «الست».
تقبيل العتبات والتمسح بجدران المسجد ليس من الدين فى شىء، واستخدام زيت المصباح فى علاج العيون لا علاقة له بالطب، وغضب إسماعيل ومحاولاته اللاحقة فى تغيير نمط التفكير السائد فى مجتمعه واستخدام أساليب الطب الحديث فى العلاج ليس مؤامرة خارجية لتدمير المجتمع. هكذا تستنبط من الفيلم.
أدرك القرويون البسطاء ذلك بمرور الزمن، ولم يعد زيت قنديل أم هاشم يُستخدم فى مجال الطب، لكن أزمة نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية كشفت عن أننا ما زلنا نمارس طقوساً مشابهة، ونستخدم زيت قنديل «الست» فى علاج أزماتنا السياسية.
رقصات «المواطنين الشرفاء» على أنغام الـ«دى جى»، وتلاعب أصابعهم الوسطى فى الهواء، وسبهم الصحفيين بألفاظ خادشة للحياء العام فى حماية رجال الأمن، ووضع بعض هؤلاء المتراقصين بيادات الشرطة على الرؤوس، وركوع سيدة على الأرض لتقبل حذاء شرطى ليس من السياسة فى شىء.
فى المقابل، لعب دورَى الناشط السياسى والصحفى فى ذات الوقت، واندفاع بعض الزملاء، خاصة الشباب منهم، وقذفهم الاتهامات فى وجه المجتمع والنظام السياسى، والتعميم فى وصف وزارة تضم أكثر من مليون ونصف مليون شرطى ومدنى بالبلطجة، منهم رجال يتصدون بدمائهم لمواجهة الإرهاب والجريمة، ليس من المهنية فى شىء.
الحكومة والنقابة كلاهما يعالج أزماته حتى اليوم بزيت قنديل أم هاشم فى كثير من الأحيان، مع قليل من المراهم الملطفة. البعض ما زال يعتقد أن هذا الزيت بركة، ومجرب، ويصر على استخدامه، لهذا رؤيتنا مشوشة، ونكاد نصل إلى مرحلة العمى.
البلدان المتقدمة تستخدم الأساليب الحديثة فى علاج أزماتها. لهذا تقدمت. المسألة واضحة. جربنا من قبل أن ننقل تجارب ناجحة من الخارج، ولكننا كنا نصر فى كل مرة على إضافة «التاتش» الخاص بنا، كما كانت تفعل والدة الدكتور إسماعيل مع فاطمة، بعد أن اقتنعت بأن عليها أن تعطيها بعض العلاج الحديث، ولكن الزيت كان مهماً من وجهة نظرها، لأنه بركة.
سيادة القانون وحرية الصحافة علاجان أصيلان ساهما فى تعافى الكثير من الدول التى عانت من الفساد، والأزمات الاقتصادية، وقلة الاستثمارات، والبطالة، والاضطرابات السياسية، وغير ذلك من الأمراض التى تصيب البلدان.
سيادة القانون لا يمكن أن تطبق إلا فى وجود شرطة مدربة تدريباً عصرياً، لها هيبتها واحترامها، تعمل فى إطار منظومة عدالة نزيهة ومحايدة. هذا ما يطمح إليه معظم الصحفيين بالمناسبة، أؤكد لك ذلك وأنا واحد منهم.
حرية الصحافة من الصعب ضمانها إلا فى ظل نقابة قوية ومستقلة لا تختطفها تيارات سياسية، ومهنة يمارسها صحافيون يعملون بحرفية وحيادية لصالح الجمهور فحسب.
صورتنا المشوهة كصحفيين أمام الرأى العام لم تأت من فراغ. جزء كبير من التشوه جاء نتيجة الأخبار المفبركة، والخلط بين الخبر والرأى، واحتفاظ بعض الشباب بروح الناشط السياسى بعد دخولهم إلى المهنة والنقابة.
أود الإشارة هنا إلى أن غضب المواطنين من الصحفيين لا يعنى رضاهم عن الشرطة وانتهاكاتها المتكررة إلى الحد الذى جعل كلمة أنها انتهاكات «فردية» مصدر سخرية وتندُّر بين الناس.
أعجبتنى مقولة للخبير الإعلامى ياسر عبدالعزيز، خلال استضافته قبل أيام مع الدكتور معتز عبدالفتاح، فى برنامج «90 دقيقة» على قناة «المحور»: هذه أزمة لن تخرج منها جهة رابحة وأخرى خاسرة، إما أن يربح الجميع، أو يخسر الجميع.
الأزمة سوف تنتهى عاجلاً أم أجلاً.. لكن كيف سيُقفل الجرح؟ هذا هو المهم.. هل سيُقفل بعد تنظيفه؟ هل سنلجأ إلى مداواته بالأساليب الحديثة؟ أم سنكتفى بوضع القليل من زيت قنديل أم هاشم عليه ثم يختفى وسط أزمات جديدة؟