أقف طفلاً فى طابور طويييييل بين زملائى فى المرحلة الابتدائية، مرتدياً المريلة الصفراء «أم زراير من ورا وحزام قماش مربوط على الوسط ما بين عروتين». خرجنا من مدرسة قريتنا القريبة من مطار الأقصر، لنصطف على طريقه فى انتظار مرور موكب «الريس».
الانتظار يطول، وأحاول الاحتماء بكتبى من ضربات شمس صعيدنا القاسى دون جدوى. بعد ساعات طوال زادتها تعليمات الأساتذة قسوة، يمر موكب طويل من السيارات –الغريبة على عيوننا– ونحن نلوح بأيدينا بحماس منهك، للترحيب بـ«السيد الرئيس»، ولا نعرف فى أى من السيارات هو.
بعد سنوات، أجلس إلى جوار زملائى بالشهادة الإعدادية فى قاعة المؤتمرات الكبرى بالمدينة، والمناسبة: مؤتمر لتأييد السيد الرئيس من أجل مبايعة جديدة. يهمس صديقى فى أذن قريبه «سيادة النائب»، فيضع الأخير يده على كتفى «إنت كاتب شعر فى الريس؟». «أيوه يا عمى».
يسمع ما كتبت، ويأخذنى من يدى معتلياً بى خشبة المسرح، وألقى كلماتى: «مبارك عليك الثالثة مبارك / والرابعة والعاشرة بدارك». يصفق الحضور، وأنزل سعيداً بما قلت، مجيباً بخجل على كلمات الإشادة، غير أن صديقى «محمود» ونحن فى طريق عودتنا واجهنى بحدة: «ده شعر نفاق»، وأطرقت فى محاولة لاستيعاب صفعات كلماته.
سنوات طوال تمر، وأمتهن المتاعب. يكلفنى رئيس التحرير بتغطية أخبار الحزب الحاكم.. و«لكنى أكره هذا الحزب»، فيتساءل: «إنت هتتجوزه؟». ولكنى ربما أكتب مهاجماً وناقداً، فيرد منبهاً: «ابعد عن الراجل الكبير وابنه.. واكتب زى ما انت عايز».
كتبت كثيراً ما أعتقده صواباً، وأديت واجبى فى نقل الأحداث فى حدود ما تسمح به صحيفتى القومية أحياناً، وسقطت – بكتاباتى – فى «فخ» عدم التقدير والفهم أحياناً أخرى. ولكن بقيت مشاهد عدة – ربما تحين فرصة كتابة لاحقة لذكرها – تؤكد لى أن «الانفصال بين الحكام والمحكومين وصل مداه الأبعد»، الأمر الذى يعنى – بطبيعة النظرية – أن شيئاً ما يلوح فى الأفق.
وتهب عاصفة يناير، تنازعنى فكرتان: الأولى «إنها ثورة على الظلم وفساد النظام قبل شخوصه، وحتماً سيقدر لها النجاح فى الإطاحة بهم»، والثانية «فزع من سقوط البلد فى الفوضى، لا لأنه حذر منها، ولكن لأنه زرع ألغامها فى كل سنتيمتر من مؤسسات الدولة».
هذه مجرد مشاهد لـ«بنى آدم» وقف صغيراً على طريق «موكب الرئيس»، ووقف بالأمس مترقباً لـ«حكم القضاء» على الرئيس نفسه، بعد أن ظل محكوماً به منذ تفتح وعيه على الحياة. الحكم منتهى العدل والظلم فى آن، فهو يكفى – للمسئولية السياسية – فى قضية «قتل المتظاهرين»، أما قضية «الشروع فى قتل المستقبل»، فالإعدام ولو ألف مرة – قطعاً – لا يكفى.