كنت جالسا مع صديقى فى (كافيه شوب) عندما أعلن جهازه البلاك بيرى عن وصول رسائل متتالية، كان الصديق أثناء احتسائنا للقهوة يضع يده على الجهاز، وينظر إليه بطرف عينه من آن لآخر، مثل «ناضورجى» يراقب بابا مغلقا، عندما أتت الرسائل كنت من مكانى أستطيع أن أرى أن المرسل شخص واحد فقط، قلت له: ألا تريد أن ترى هذه الرسائل؟ لوح بيده بلا مبالاة: بعدين مش مهم دلوقتى.. عندما قمت للحساب.. عدت ووجدته يحدق فى شاشة البلاك بيرى، ولم يرنى وأنا ألتقط عبارة: «إنت راجل تجنن»، وبعدها أيقونة وجه مبتسم، سألته: من هذه؟.. أجاب بوجه حاول بشتى الطرق أن يرسم عليه كل جدية الدنيا: «ده واحدة قريبتى»، ابتسمت ابتسامة ساخرة وأنا أردد عبارته: قريبتك.. وما هى إلا دقيقتان وأرانى الجهاز، لأقرأ فيه رسالة قصيرة أكثر التهاباً.
حاول أن يناولنى الجهاز، ولكننى لم أرد أن أمسك به، كنت أحسه ساخنا، دبقا بعض الشىء، كما لو كان بداخل جسد بشرى، كنت أحس أن بداخل الجهاز موجات إيروتيكية بخلاف موجات الميكروويف التى تحمل هذه الرسائل، وأنا أودعه كان قد انتهى من إرسال الرد، سلم علىّ بابتسامة عريضة منشرحة، ولمحت تألقا طفوليا غريبا يتراقص فى عينيه.
لماذا نريد أن نخون هذا الواقع، الواقع الثقيل الغليظ، ونهرب إلى الحب الافتراضى؟ هل نحنّ إلى عهد البراءة؟ ففى ظل الحب الافتراضى انفصل الحب عن الجنس عن الزواج، والنتيجة أن الحب الافتراضى فى الأغلب لا جسدى، روحانى، طفولى.. هل ننشد الطفولة مرة أخرى؟
نخون هذا الواقع الثقيل المعقد لأننا امتلكنا أدوات خيانته، صفحات الفيس بوك ومقاطع اليوتيوب ويانصيب البلوتوث، نريد أن نستمع لنغمات الحب الطازجة، نريد أن نعلن لأنفسنا أننا ما زلنا جذابين، يرى فينا الآخر ما لا يراه من هو قريب منا.
فى هذا «الواقع» الافتراضى تبرز شخصيتنا الرائقة التى لا تحمل للدنيا هما، لا أحد يرى الوجه المظلم للقمر، لا يرانا أحد وقد توترت أعصابنا بضغوط الحياة، ولا يرانا عندما نفيق من النوم، دائما يرانا وقد ارتسمت ابتسامة واسعة على شفاهنا، وقد أخذنا زينتنا أمام عدسات التصوير.
لماذا نهرع لكلمة الحب الطازجة؟ هل لأن العادة أماتت الكلمة على الشفاه (إن وجدت أصلا) ولم تعد مدهشة؟.. نندهش عندما تقال لنا بطرق جديدة، بوسائط جديدة، وبمضامين جديدة، نقول لأنفسنا: لقد عاصرت من أحبنى وأهدى لى شريط كاسيت لنجاة، وها أنا أعاصر من يرسل لى أغنية لـ(إليسا) على اليوتيوب!!
هل المشكلات الاجتماعية المعقدة، والاقتصادية المرهقة، والسياسية المربكة تدفعنا للمسة حنان نفتقدها وسط حمأة الحياة الصاخبة، لمسة تعيدنا من العام إلى الخاص وتحملنا على الاستمرار والمواجهة؟
إننا لا نريد هذا الواقع، ولا ندرى أن خيانة أعمق وأكبر بانتظارنا، هروبا أبعد لا نتوقعه، عندما تتسلح الحقيقة الافتراضية بالمجسات على الجسد، والنظارات فوق الأعين، والسماعات فى الأذن، عندما ينقل الكمبيوتر اللمسة، هذه التكنولوجيا المعقدة التى ستمكن البعض من ممارسة الجنس عبر الإنترنت، وهو الجنس الذى يبشر به منظرو الحب الافتراضى ويرون أنه سيكون أفضل من الجنس العادى الطبيعى أو الحقيقى، بلا تبعات أو مسئوليات أو مشاكل اجتماعية، وبلا أمراض جنسية،
لقد امتطينا صهوة جواد جموح، يا ترى أين سيصل بنا؟!