«أعرف بحكم مراقبتي للحشرات أنّ الحب ليس سوى حيلة للبقاء، ولكن كم من الممتع أن نتعامى عن هذه الحقيقة». عالم بدون إناث هو عالم كارثي كما يتخيّل أمين معلوف في روايته «القرن الأول بعد بياتريس».معلوف الذي انتقل إلى فرنسا في منتصف السبعينيات، كتب روايته الرابعة تلك بالفرنسية، لتدور معظم أحداثها في فرنسا، ولكن نجدها تمس موضوعات ليست غريبة عنّا في العالم العربي، كالهجرة، والحرب الأهلية، والعنصرية.
تبدأ الرواية بزيارة بطلنا، عالم الحشرات مجهول الاسم، لمصر. في القاهرة يلاحظ تكرار فكرة خلود الاسم عن طريق إنجاب مواليد ذكور ما بين الأختام الفرعونية القديمة وعُلب «فول الجعران» المشبوهة، يبيعها تُجار كعلاج مزعوم للخصوبة وكوسيلة مضمونة لإنجاب صبي.
وبرغم أن الرواية تدور في مجتمع مستقبلي حيث نرى تطور العلوم في المجال الطبي بالذات وقدرتها على الإتيان بنفس النتيجة، إلا أنّه من خلال خلطه العلم بالدجل كان قادرًا على خلق صورة مُرعبة لمستقبل مُحتمل. فمن خلال ثيمة رئيسية هي الأنثى، وما يشمله ذلك من دورها في المجتمع، وتاريخها، والصراع الأزلي ما بين الرغبة في إنجاب ذكر أو أنثى، تطرح الرواية رؤية شبه «ديستوبية» يكتب فيها البطل مذكراته لما يعانيه العالم. لا يوضح معلوف السنة- أو القرن- الذي تدور فيه أحداث الرواية، ولكننا نعرف أنّها تدور بشكل كبير في فرنسا، وإن كان لها تأثير هائل على العالم بأسره، ونجد فيها تقدمًا علميًا هائلاً وتخلفًا حضاريًا يذكرنا بوأد البنات في الجاهلية.
الرواية تعج بشخصيات مثيرة للاهتمام ولكن يظل بطلنا أكثرهم تشويقًا، حيث يختار له معلوف تخصص دراسة الحشرات كنافذته على العالم، فمجال دراسته هو تحول الحشرات فيرى كيف تتحول اليرقة إلى فراشة، ومن نفس المنطلق يشهد «التراجع» أو التحول الذي يمر به المجتمع كذلك.
تفضيل المواليد الذكور على الإناث له مراجع تاريخية في أزمة وأماكن مختلفة، ولكن في الرواية ولأنها تتمتع بطابق مستقبلي، فيتم طرحها بشكل علمي.
تطرح الرواية سؤال «ما الذي سيحدث لعالمنا إن توفرت لهم أدوية أو أساليب علمية تضمن إنجاب الذكور بدلاً من الإناث؟»، كيف سيتغير شكل العالم وكيف سيستخدم البشر هذا التطور؟، وبينما يتمكن الراوي من التوصل لحل معضلة حياته المتمثلة في زواج سعيد وابنة يُغرقها بحبه، نجد المجتمع ما بين الشرق والغرب تمزقه الكراهية. وككثير من الروايات الديستوبية التي تتناول انهيار العالم، تدور أحداث هذه الرواية كما يبدو في المستقبل، ولكن يتمكن معلوف من ربط مستقبله المظلم بحاضرنا وما يحدث فيه.
أثناء قراءتي للرواية صادفت أعمال عدة تتناول نفس الثيمة منها قصة قصيرة لكاتبة كورية تدعى بارك وان سو باسم «يقطين الولادة»، والتي تحكي فيها عن العار الذي حل على أحد شخصيات القصة بعد أن أنجبت زوجة ابنها فتاة، وتدور أحداث النصف الأول من القصة في غرفة المستشفى التي تتشاركها مع امرأة أخرى أنجبت صبيًا وتفاخر تلك العائلة على مسمع من العائلة التي حظت بفتاة. في تلك الصفحات القليلة تتلخص معضلة تفضيل الذكور على الإناث لأسباب واهية مثل ضمان استمرارية اسم العائلة أو «شعور الأب بأبوته لا يكتمل بدون مولود ذكر».
«منذ آلاف السنين وبلايين البشر ينتحبون عند إنجابهم أنثى ويبتهجون لولادة طفل ذكر. وفجأة يأتي أحد المغررين ليقول لهم: ها هو رجاؤكم يمكن أن يتحول إلى حقيقة.. ها هو أحد المغررين يأتي ويقول لهم: بمقدوركم إبادتهم دون علم أحد». في روايته هذه يتناول معلوف العنصريّة بمختلف صورها، عنصريّة الشرق والغرب، عنصريّة الأغنياء والفقراء، عنصريّة الدول المتقدمة ودول «العالم الثالث»، وعنصريّة الجنس والجنس الآخر، وكيف يؤثر كل ذلك على استمرارية عالمنا.
«إنني تيس عجوز في الثالثة والسبعين من العمر وقد تسّنى لي على مر السنين أن ألاحظ كيف تستخدم البشريّة أكثر الوسائل تطورًا لخدمة القضايا الدنيئة وتوظِّف أسلحة عام 2000 لتسوية نزاعات تعود إلى العام 1000».
في هذه الرواية الأشبه ببحث علمي في صورة مذكرات يأخذنا الراوي في رحلتين، رحلة لعالمه الأصغر المتمثل في عائلته الصغيرة والحشرات التي يجيد تشبيهها بالبشر، ورحلة لعالمه الأكبر حيث نرى كيف يتأثر العالم عندما يتم انتزاع حق الولادة من الإناث، ما بين التطرف الديني والعلمي. علاقة الراوي بالأنثى في حياته، المتجسدة سواءً في زوجته أو ابنته، تدعو للإعجاب. فنجده يتخذ شكلًا «أموميًا» تجاه ابنته، قبل مولدها حتى، وعند مجيئها تصبح هي البوصلة التي تقوده في تأريخ حاضر ومستقبل البشرية.
قال أحدهم عن رواية «القرن الأول بعد بياتريس»: «إذا أراد أحدهم أن يروي قصة عن نهاية العالم، أفضل أن يكون شخصًا صافٍ بصوتٍ شيق كأمين معلوف،" وأجدني أتفق معه تمامًا في الرأي».