أخرج د. سولومون آش من جيبه الأيمن صورة لثلاثة خطوط رأسية: الخط الأول طويل جدًّا، والثاني متوسط الطول، والثالث قصير للغاية، ثم أخرج من جيبه الآخر الصورة الثانية، فكان بها خط مماثل في الطول للخط الأوسط الموجود في الصورة الأولى.
وفي كل مرة كان يسأل مجموعة مكوَّنة من ثمانية أشخاص: أي خط في الصورة الأولى يشبه الخط الموجود في الصورة الثانية؟
قد تقول: ما هذه التجربة التافهة؟! إنّ هامش الخطأ في الإجابة عن سؤال كهذا لن تتعدى 1 في المائة بحال.. بمعنى أن 99 شخصًا من بين كل مائة لن يخطئوا في معرفة الطول المناسب!.
هذا صحيح، ولكن ماذا إذا عرفْتَ أن سبعة من بين الثمانية الذين يسألهم د. سولومون في كل مرة هم مساعدون له، يستخدمهم من أجل التشويش على رأي الشخص الأخير (الواقع في الخدعة)، بحيث يقولون جميعًا إنّ الخط الطويل جدًا أو القصير للغاية هما الأكثر مُنَاسَبَة للخط الموجود بالصورة الثانية؟!.
لقد أصبح (المخدوع) أسيرَ مجموعةِ ضغطٍ قويةٍ، ومحيطٍ بيئيٍّ يدعوه إلى الخطأ صراحة!
تعرفون كم أصبح هامش الخطأ؟!
لقد صار 75 في المائة؟!
أي أنّه من بين كل مائة أُجري عليهم الاختبار، شكّك ثلاثة أرباعهم في قدراتِهم العقلية ونظرتهم الشخصية، واستجابوا لرأي جماعة الضغط.
- دعك من هذه التجربة.. هل سمعت عن تجربة «متلازمة جينوفيز» أو «سلبية المارة Bystander Effect»؟!
إنّها ببساطة حول رجل يَدّعي الوقوع في الشارع (يتظاهر بالإغماء).. وينتظر أي الناس سيبادرون إلى إسعافه.. ماذا وجد؟!
وجد أن معظم البشر يميلون إلى المساعدة حين يكون عدد المحيطين بهم قليلًا، ويترددون في تقديم العون إذا زاد عددهم ولا يأبهون للرجل الواقع بالأرض. إنّه مفهوم يُطلق عليه في الدراسات النفسية «تشوّش المسؤولية»؛ أي عدم شعورنا بالمسؤولية حين تكون مُوَزَّعَة على كثيرين غيرنا؛ ليؤدي الأمر في النهاية إلى عدم قيام أي منا بالواجب.
- كان لي صديق أخبرني ذات مرة بما يُسمى بـ«سخونة المباراة»؛ تجد رجلًا يلبس بدلة ورابطة عنق يجلس في مدرجات المتفرجين على مباراة فريقه المفضل، ثم يجد من حوله بعد إحراز هدف فريقه يخلعون ملابسهم ويهللون، فيقوم بخلع ملابسه هو الآخر ناسيًا أو متناسيًا أن مركزه الاجتماعي لا يسمح بذلك، وأنه في عقله الواعي ما كان ليخلع ملابسه أبدًا.
ما نريد أن نقوله إنّ الإنسان ابن موروثاته الاجتماعية، فهو ضحية من حوله، ونحن- مهما ادعينا أننا نخالف التيار- ففي الحقيقة نحن لا نستطيع التخلص من قيود بيئتنا تمامًا، غاية ما هنالك محاولة للالتفاف عليها، أو منع النفس من الانغماس التام فيها.. لكن معارضة بيئتنا تمامًا تتطلب شجاعة كبيرة، وقدرة على تحمل الأذى المجتمعي.
- هل تتصور أنه في عام 1939 قام د. كينيث كلارك وزوجته، بإجراء تجربة على أطفال من العرق الأسود عن طريق وضع دُمْيَتَيْنِ إحداهما بيضاء والأخرى سوداء أمام الأطفال، وطرح أسئلة محددة عليهم مثل: ما الدمية المفضلة لديك؟ ما الدمية التي تحب أن تلعب معها؟ ما الدمية التي تبدو شريرة؟
أظهرت نتيجة التجربة أن غالبية الأطفال (وهم من العرق الأسود كما أسلفنا) فضَّلوا الدمية البيضاء على تلك السوداء، أسهمت هذه التجربة في إقناع المحكمة العليا الأمريكية، بأن التفرقة القائمة على أساس العرق واللون في أمريكا أمر ضد القانون، وذلك كمحاولة لإلغاء العنصرية بشكل تام. لقد أثرت البيئة المحيطة في قراراتهم لدرجة أنهم أصبحوا يشعرون في دواخل أنفسهم بالانهزامية وتفضيل العرق الآخر على ذواتهم.
جاهزون لأبشع تجربة؟!
- قامت ماري تيودور جايكوبز بتعريض 6 أطفال (بعضهم مصاب بالتأتاة وتأخر النطق، وبعضهم الآخر معافًى تمامًا) إلى الضغط النفسي والإساءة المتعمدة استنادًا إلى نظريات ويندل جونسون حول التأتأة، أي إهانة وتحقير الأطفال عند محاولتهم الحديث، كانت النتيجة أنهم أصبحوا يتلعثمون، حتى الذين لم يظهروا أيّ مشاكل في النطق من قبل. كما أنهم فقدوا الثقة في أنفسهم إلى درجة أن منهم من كان يخفي وجهه من شدة الخجل عند توجيه سؤال إليه، كأن مجرد نطقه أي كلمة عارٌ يستوجب الإخفاء.
المحزن في الأمر أن الضرر كان دائمًا، فبعضهم لم يتحدث بشكل طبيعي مرة أخرى.
نريد أن نقول إنّ التحرر الجزئي من قيود الجماعة يعني منح فرصة ذهبية للنفس للتفكير خارج إطار.. إن عرضك كل ما تمليه عليك جماعتك، بُعْدُك، بيئتك، محيطك، على العقل الواعي، وتمحيصه ونخله، بمصفَاتِك الخاصّة، يعني بالضرورة اقترابك من إنسانيتك المجرّدة غير الخاضعة لقيود من صنع الآخرين، من حقك ألا تتقولب، وألا ترضى بكل ما يأتيك، فالعقل الجمعي أيًا كانت درجة تحضره واتزانه إن أصاب حينًا.. يخطئ أحيانًا.!