أمس شاهدت مشاجرة بين عاملة بسيطة وبائع فول فى الشارع تلخص ببساطة الهم الحقيقى لهذا الوطن الغلبان، الهم الذى يجب أن يشغل الجميع، سبب المشاجرة هو أن البائع رفع سعر كبشة الفول من جنيه إلى جنيه وربع والطعمية صارت الخمس أقراص فى حجم الزرار بنفس السعر أيضاً، اندهش المارة من انفعال السيدة البسيطة وصراخها الذى انتهى بالبكاء المرير، علق البعض يعنى إيه ربع جنيه فى كل من الفول والطعمية، وعلق البعض الآخر: المسألة ماتستاهلش كل التهليل ده!، مر الجميع مرور الكرام وذهبوا إلى حال سبيلهم بين متأفف ومشمأنط ومستنكر ولامبالٍ أو ممصمص شفاه، صرخت السيدة بكلام موجع صوبته فى وجه الجميع «أعمل إيه، عايزينى آكل إيه أقل من كده، عيش وفول، أنا مش عايزه اللحمة أنا راضية بالمقسوم وبالفول حتى ده مش حاعرف آكله، أعمل إيه أكل أنا وعيالى زلط وطوب»!!.
السيدة تعمل فيما يسمى بالاستثمار فى إحدى مؤسسات المحافظة وتقبض باليومية، مرتبها عشرة جنيهات فى اليوم وزوجها عامل بناء عاطل قعيد فى المنزل يعانى من فيروس سى وسكر ويتحرك بالكاد إلى السرير والحمام، تعيش هى وزوجها وأطفالها الأربعة تحت سقف غرفة واحدة مسقفة بالخشب فى قرية تبعد ستة كيلومترات عن المدينة، أى أنها تحتاج إلى جانب الأكل والشرب لمواصلات وعلاج ومصاريف مدارس وهى المرأة المعيلة التى تسحق كرامتها وصحتها وآدميتها أسفل جنازير القهر والفقر، أرجو من كل من اندهش من غضب هذه المرأة الغلبانة أن يحسبها بكل علم الرياضة والاقتصاد والإحصاء والفيزياء الذى تعلمه ويسأل نفسه كيف تعيش هذه السيدة بالثلاثمائة جنيه، بل أرفع السقف أكثر وأقول بالألف جنيه إذا استطاعت أن توفر من وقتها وصحتها وجهدها وقتاً للخدمة فى البيوت بعد شغلها الحكومى؟، لن نقول ثلاث وجبات ولن نذكر هذا الاختراع العجيب المسمى اللحم ولن نقول إن هناك ما يسمى بالملابس وبالطبع لن نذكر الرفاهية والسفاسف مثل الماء النظيف أو الصرف الصحى ومن باب الكوميديا والخيال العلمى أن نذكر شيبسى العيال أو فسحة الجنينة أو فرجة التليفزيون.. إلى آخر هذا الهراء، احسبها طبق فول وشوية طعمية أو طبق بصارة وفحل بصل وشوية زيت وخمسة أرغفة سريالية مبعجرة من ذوات البعد الرابع كل هذا لمدة ثلاثين يوماً!!، احسبها أو أدخلها على برنامج كمبيوتر وأنا متأكد أن الكمبيوتر سينفجر أو سيصفعك على قفاك بالويندوز!.
من الفقير فى مصر؟، لا تقل لى ماحدش بيموت من الجوع أو الفقر!، زوج هذه الغلبانة الذى لايعالج من السكر أو فيروس سى سيموت بسبب الفقر، بناتها سيفترسهن «الأنيميا» ولن تجدى معهن حكمتكم البليغة تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، ربة الأسرة سيقصف عمرها بدرى لأنها لا تعرف معنى الإجازة ومربوطة كالبهيمة العمياء فى ساقية الجرى على لقمة العيش، لن ينفع أن تقول لى إن الفقير فى مصر هو الذى يبلغ دخله أقل من دولار يومياً، بلاش هزار، تعريف الفقير لا بد أن يتغير، اللى دخله ألف جنيه شهرياً فى مصر فقير بل مسكين ولا يمكن أن يظل على قيد الحياة هو وأسرته إذا مارس هذا الشبح الخرافى المسمى الشرف، فما بالك بمن يقبض آخر الشهر تلتميت جنيه!، لا بد له من أن يرتشى أو يطنش أو يماين أو يميل أو يغمى عينيه أو يمد إيديه، طابور الفقراء فى مصر لو اتحسب بضمير وبدقة سيضم نصف المصريين، من يحصل على دبلوم تجارة أو زراعة أو صنايع وعمال الزراعة والسريحة والشغالات وبائعات الدواجن فى الأسواق واللى بيعملوا المرقة من أرجل الدجاج والمعاشات ومطاريد الشركات الخسرانة والمباعة لمصاصى الدماء.. .. إلخ وهم بالملايين وليست لديهم أى فرص توظيف أو تأمين صحى هم من ضحايا الغلب والقهر والفقر وقلة الحيلة وحكام الغبرة، آمالهم وأحلامهم مؤجلة حتى مراكب الموت التى تحملهم إلى بطون أسماك القرش قد ضنت عليهم، حتى أهل العراق ممن رضوا بزراعة أرضهم لحين العودة فى توابيت ونعوش مجهولة العنوان لفظوهم، حتى الكهول من ذوى العقال ممن زوجوا بناتهم بالسمسرة وتلذذوا بلحمهم هم وأحفادهم.. جلدوهم، هل عرفتم لماذا يصف الفقراء فى مصر فقرهم بأنه «دكر»، ببساطة لأنه الفاعل وهم المفعول به!، يا سيدنا على يا إمام المتقين لم يعد الفقر رجلاً سهل المنال لتقتله بل صار شعباً بأكمله، فهل سنقتله هو الآخر؟!