أنت مقدم على اتخاذ قرار، المشاركة فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية أو المقاطعة. التصويت لمرسى أو شفيق، أو ترك كل هذا والنزول إلى الميدان تحت شعار «الثورة مستمرة». إذن عليك أن تعرف أولاً ما هو القرار السياسى؟ والإجابة أنه ببساطة هو اعتماد طريقة فى العمل، ثم القيام بالتنفيذ. وقد أعطى علماء السياسة قدراً هائلاً من الاهتمام لدراسة القرارات متوسلين بكل ما أهدته فروع المعرفة الإنسانية فى مجالات علم النفس والرياضيات والحاسوب. وظل الباحثون والخبراء زمناً طويلاً ينظرون إلى عملية اتخاذ القرار بوصفها عملية عقلانية ينتجها أشخاص يتمتعون برشد ودقة فى التفكير والتدبير، يدرسون فى إمعان الخيارات المتاحة والإمكانيات المتوفرة ثم يتخذون أفضل السبل فى سبيل تحقيق الأهداف.
وبدا لهؤلاء عملية صنع القرار واتخاذه أشبه بعملية البيع والشراء فى السوق التى يقوم بها «الإنسان الاقتصادى» Economic Man فى سياق منافسة مثالية تتوافر فيها جميع المعلومات عن كل شىء يتعلق بالتسوق، وبالتالى يتمكن «الفاعل» من معرفة وفهم الأمر على حاله، دون نقص ولا زيادة، وبالتالى يقدم على فعل منضبط رشيد يقوده إلى جنى الربح دوماً. لكن الواقعية برهنت على أن هذا التصور مثالى، فالسياسى، وأى شخص آخر، لا يمكن أن تتوفر لديه الظروف الطيعة المفهومة بالكامل، وبالتالى لا يرى الخيارات جلية ناصعة تتيح له أن يفاضل بينها ويحدد ما يريد دون خلط أو تشويش، بما يؤدى إلى الحصول على أفضل النتائج. فكثير من القرارات تحاط بقدر كبير من الغموض، وبعضها يجب اتخاذه على وجه السرعة، لاسيما فى أوقات الأزمات، ولذا يجازف الناس، فى الغالب الأعم، وهم يتخذون قراراتهم.
ما سبق يبين أن استقلال القرار لا يعنى بالضرورة رشادته أو ذهابه إلى الحصول على نتائج مضمونة ومثالية، إنما يعنى بالأساس صدور القرار عن إرادة كاملة، دون إملاءات أو ضغوط شديدة يمارسها طرف خارجى تدفع صانع القرار ومتخذه إلى الرضوخ لها والتصرف وفق مشيئتها أو فعل ما يحقق مصالحها. والقرار المستقل يروم تحقيق ما يفيد الوطن بالدرجة الأساسية، وبالتالى فمتخذه وطنى مخلص، ليس عميلاً ولا متواطئاً، أو لاهياً عن مصلحة بلاده أو متلاعباً بها، أو مقايضاً عليها بما يحقق أهدافه هو الشخصية، التى قد يكون من بينها بقاؤه فى السلطة أو حصوله على امتيازات مادية كبيرة أو تغطيته عورات يملك طرف خارجى معلومات عنها ويوظفها فى الضغط عليه. لكن استقلال القرار ليس عملية إنشائية أو شعاراتية إنما يجب أن ينبنى على عناصر قوة متجسدة فى الواقع، سواء فى المجال المادى أم المعنوى والرمزى. فمن لا يملك قوته لا يملك قراره، ومن يستسلم للحرب النفسية التى يشنها عليه عدوه يمكن أن يقرر ما يحدد له من استهدفه وهو يتوهم أنه يتخذ قراره الحر، وهذا للأسف ما يسيطر على قطاع عريض من الناخبين.