تسبّبت سياسات وقرارات الرئيس محمد مرسى، طوال فترة حكمه التى لم تتجاوز سبعة شهور، فى وقوع العديد من الأزمات والاضطرابات فى مختلف مناحى الحياة فى مصر؛ أزمات على المستوى السياسى والاقتصادى والأمنى.
وهذه الأزمات هى التى دفعت مئات آلاف من المصريين إلى الخروج للشوارع فى الذكرى الثانية للثورة، لأن الناس، وبعد عامين من الثورة، رصدوا أن أحلامهم فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لم يتحقق منها شىء، بل إن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، وبالطبع لو كان الحكم رشيداً وعمل منذ اليوم الأول لحل مشاكل الناس واحتواء جميع الأطياف السياسية من أجل النهوض بمصر وإشراكها فى إدارة البلاد لمواجهة التحديات لكان خروج الناس فى الذكرى الثانية للثورة خروجاً للاحتفال وحافزاً لمواصلة الكفاح فى سبيل نهضة البلد، ولكن تفرغ السلطة لمهام التمكين والإقصاء والسيطرة والحكم بطريقة استبدادية عطل أى خطوات للإصلاح وكأن الشعب المصرى الذى قام بثورة ضد الاستبداد والفساد والديكتاتورية، نفس هذا الشعب سيرضى باستبدال ديكتاتور مكان ديكتاتور واستبداد الإخوان مكان استبداد الحزب الوطنى.
والغريب أن القائمين على الحكم لا يدركون أساس الأزمة التى أدت إلى هذه الحالة من الفوضى والعنف والانهيار الأمنى والاقتصادى، ويصممون على أن الذين خرجوا للشوارع فى الذكرى الثانية للثورة هم من الخارجين على القانون أو فلول النظام السابق أو من يريدون الفشل لمشروع حكم الإخوان أو ممن كانوا يطمعون فى كرسى الرئاسة ويريدون القفز عليه.
والمؤكد أن السبب الرئيسى فى الأزمة الحالية كان هو الإعلان الدستورى الاستبدادى الذى أصدره الرئيس محمد مرسى فى 22 نوفمبر 2012، فقبل هذا التاريخ كانت الأمور تسير سيراً طبيعياً. دعا الرئيس رموز من المعارضة فلبوا الدعوة على الفور واجتمع الرئيس بكل من الدكتور محمد البرادعى والسيد عمرو موسى والسيد حمدين صباحى والدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح كلاً على حدة، فلم تكن هناك أزمة تستدعى عدم تلبية الدعوة أو عدم مواصلة الحوار.
والملاحظ أن ثلاثة من الذين قابلهم الرئيس كانوا منافسين له فى انتخابات الرئاسة ولم يمنعهم ذلك من الذهاب إلى الرئيس المنتخب والاجتماع به مما يدل على احترامهم للشرعية ولمنصب الرئيس، وبعد هذه الاجتماعات فوجئ الشعب بالرئيس -وبدون مناسبة- يصدر إعلاناً سماه دستورياً يمنح فيه لنفسه سلطات أقل ما توصف به أنها سلطات ديكتاتورية وأصبغ هو عليها حصانات لا تعرفها حتى دول الموز، فما يصدره من قوانين أو قرارات لا رقابة عليها من أى جهة، بل إنه تجاوز ذلك إلى إصدار أحكام فى القضايا المنظورة أمام القضاء بالحكم فى الإعلان الدستورى بانقضاء الدعاوى المنظورة سواء أمام المحكمة الدستورية أو المحاكم الإدارية، وتداعت الأمور ورفضت أغلبية الشعب هذا العبث فى مقدرات الوطن وتظاهروا أمام قصر الاتحادية للتعبير عن غضبهم، فرد أنصار الرئيس بمظاهرة حاشدة لتأييد قراراته وصفوه فيها بأنه من الصحابة ومن أحفاد الخلفاء الراشدين!
وظهرت الميليشيات الإخوانية للمرة الثانية لفض اعتصام قصر الاتحادية بعد ظهورهم الأول فى جمعة كشف الحساب وخرج الرئيس لتحيتهم ووصفهم بأنهم حماة الشرعية بينما الآخرون هم من العناصر الإجرامية وسقط شهداء من الجانبين وأُريقت الدماء المصرية بأيد مصرية لأول مرة فى التاريخ.
والغريب أن هذا الإعلان الدستورى الذى فجّر الوطن تبرأ منه نائب رئيس الجمهورية ووزير العدل وكثير من مساعدى الرئيس ومستشاريه الذين استقالوا احتجاجاً على هذا الاستبداد، وتبع ذلك ما حدث فى جمعية وضع الدستور والإصرار على الانتهاء منه وإدخال مواد انتقالية ليلة التصويت عليه والإصرار على الاستفتاء فى موعده فى تعجل لا يبرره إلا الرغبة الجامحة فى سرعة السيطرة والهيمنة والاستيلاء على مقدرات البلاد بأقصى سرعة ممكنة، وكأن ذلك هو الغاية التى تحقق الاستقرار للوطن، ولم يكن ما حدث من تجاوزات فى الاستفتاء بعيداً عن عوامل الشحن والاحتقان التى ألمّت بأطياف عديدة من الشعب.
والأسئلة التى تطرح نفسها بقوة هى: أليس فى كل ما سبق ما يثير الغضب؟ ألم يخطئ الرئيس فى القرارات التى اتخذها؟ هل الإصرار على تمرير دستور غير توافقى وبه العديد من العوار -الذى اعترف به نائب رئيس الجمهورية- يحقق الاستقرار؟ هل الإصرار على استمرار حكومة الدكتور هشام قنديل برغم عجزها عن حل أى مشكلات تواجه المواطن البسيط بل تسببها فى العديد من الأزمات يحقق صالح الوطن والمواطن؟
والغريب أن ما حدث من حشود وتظاهرات فى الذكرى الثانية للثورة لم يكن خافياً على القائمين على الحكم، وكان يتعين اتخاذ قرارات وإجراءات لتخفيف احتقان الشارع، فخرج علينا وزير الإعلام يبشرنا بالاحتفالات وبالموسيقات العسكرية التى ستجوب الشوارع، فكانت هذه أول مظاهر الغيبوبة التى يعيشها صناع القرار، وكان معروفاً أيضاً أن أحكام مجزرة بورسعيد ستصدر فى اليوم التالى أى يوم 26/1/2013، وخرج وزير الداخلية وقال إنه لا يخاف من يوم 25 ولكنه يخاف من يوم 26، فما الذى اتخذته وزارة الداخلية من احتياطيات لتلافى آثار هذا الحكم على الشارع؟ لا شىء، وهذا هو المظهر الثانى من مظاهر الغيبوبة. وبعد وقوع الأحداث وسقوط الضحايا بين شهيد وجريح ووصول العنف إلى مداه فى بورسعيد والسويس التزمت مؤسسة الرئاسة الصمت المريب، ثم غرد الرئيس على «تويتر» يعزى الشعب المصرى بعد منتصف الليل.. ما هذا؟
وانتظر الشعب ما أُعلن عنه من أن الرئيس سيوجّه كلمة إلى الأمة فى اليوم الثالث، وفوجئ الشعب الجريح المحتقن خاصة فى بورسعيد بالرئيس يهدد ويتوعد ويفرض حالة الطوارئ وحظر التجوال لمدة ثلاثين يوماً على مدن القناة، ويقول إن لديه المزيد، ويطالب الشعب باحترام أحكام القضاء التى لم يحترمها وبسيادة القانون الذى داسه بالأقدام ولم يقدم فى الخطاب أى حلول أو يتخذ أى قرارات من شأنها التهدئة بل اختار التصعيد والعناد والتحدى.. ومع من؟ مع من سقط منهم قتلى ومصابون.
وتغافل الرئيس عن كل أسباب الاحتقان التى ذكرنا بعضها وصمم -على نهج النظام السابق- على أن وراء التظاهرات الخارجين عن القانون، وأدان ضمناً المعارضة التى عاب عليها عدم إدانتها لأعمال العنف، ودعا فى سطر واحد بعد التهديد والوعيد قوى المعارضة للحوار.
وغاب عن الرئيس أن الأزمة الحالية سياسية وأمنية معاً، فاتجه إلى الحل الأمنى فقط -الطوارئ وحظر التجول- على الرغم من استحالة تنفيذ ذلك على الأرض خاصة على مدن القناة التى وقفت صامدة فى مواجهة أعتى الدول بل إن مصر كلها تعلمت الوطنية والبسالة والفداء والتضحية من مدن بورسعيد والسويس والإسماعيلية، فاختلق عداوة غير مبررة مع هذه المحافظات دون أى عائد.
وانعقد الحوار فى موعده دون مشاركة المعارضين الحقيقيين.. فماذا أسفر عنه الحوار؟ المطالبة بتوسيع الحوار وتشكيل أربعة لجان فرعية وإعادة النظر فى مادتين فى قانون الانتخابات وتشكيل لجنة من عشرة أشخاص للنظر فى التعديلات الدستورية واتخاذ الإجراءات القانونية لوقف نزيف الدم -ولا أدرى كيف يتم ذلك- والتحقيق بشأن التجاوزات.
الوطن يحترق الآن من الإسكندرية إلى كفر الشيخ إلى المحلة إلى بورسعيد والسويس والإسماعيلية إلى البحيرة إلى القليوبية والقاهرة، والقتلى يتساقطون والدماء تنزف والمصابون بالآلاف، ثم يتحاورون ويشكلون لجاناً ويتفقون على الاجتماع فى الأسبوع القادم لمواصلة الحوار؟
أليست هذه الغيبوبة بعينها فى حل الأزمة؟