لم تتسع قاعة «باسيلى»، كبرى قاعات الجامعة الأمريكية، لحضور قرابة سبعة آلاف من طلابها، حتى إن بعضهم افترش الأرض وجلس على السلالم، أو وقف خلف المدرجات أو تزاحم خارج القاعة.
وقد شرفت بتلبية دعوة كريمة من الإعلامى الشهير الأستاذ حافظ الميرازى مع جراح القلب والإعلامى الشهير د.باسم يوسف لعقد ندوة عن «الهجاء السياسى بين القبول والرفض».
وقد توافقت آراؤنا جميعا على السعى لإخراج هذه الندوة بشكل مشرف يليق بشرف العلم ومكانته، وأن نبعدها عن جو المناظرات والمشاحنات والمعارك الفكرية الطاحنة، وأن ندخلها متحابين متصافحين ونخرج منها كذلك، وأن نقدم نموذجا للتلاقى والتراحم مع ما بيننا من اختلاف فكرى.. لقد دخلنا القاعة بأيادٍ متشابكة وخرجنا منها كذلك، وقد كان د.باسم مهذبا وراقيا معى ومتواضعا خفيض الجناح رغم رؤيته المضادة للتيارات الإسلامية وبخاصة الحاكمة منها.
وقد استطاع الأستاذ حافظ الميرازى أن يعبر بالندوة كل المزالق التى كان يمكن أن تهدم نظامها، وأدارها ببساطة وحنكة وقليل كلام وكثير حكمة، حتى خرجت دون أن يخدش حياءها كلمة نابية أو فوضى أو صخب أو خروج عن اللياقة والأدب.
لقد شعرت أن جميع الحاضرين كانوا على قدر المسئولية، وقد ساعد على ذلك تقدير د.باسم للآخرين، حتى إنه طلب من القاعة أن تصفق لشاب من حزب البناء والتنمية عندما سأله سؤالا محرجا؟ واعتبر السؤال نفسه ظاهرة صحية، حتى إنى شعرت بأنه لا يضيق بنقد الآخرين له، وقال للسائل: ينبغى على الدعاة أن يكونوا قدوة، وحتى إذا أخطأت أنا وسخرت من أحد فلا ينبغى لحمَلة الدين ومن ينتمون للدعوة أن يقولوا على حمدين صباحى «حمضين»، فأنا غيركم.. أنا مهرج وصاحب برنامج ساخر، لكن أنت تنتسب إلى الله، وتقول إن تصرفاتك محكومة بالكتاب والسنة.
والحقيقة أنى كنت متخوفا من أن تتحول هذه الندوة إلى نوع ملاسنة أو مشاتمة وخاصة فى هذه الأجواء من الاستقطاب الحاد التى تشيع فى مصر هذه الأيام، وقد ركزت فى كلمتى على «فقه النقد فى الإسلام»، وعلى التفريق بين الإسلام المعصوم والحكم والفكر والحركة الإسلامية غير المعصومة، وأنه لا يجوز نقد الإسلام المعصوم، بينما يجوز نقد الحكم والفكر والحركة الإسلامية غير المعصومة نقدا بناء موضوعيا.
كما قلت إن الإسلام أعظم دين على وجه الأرض دعا إلى النقد الذاتى، وحث عليه، وربطه بيوم القيامة «لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة».
ثم تحدثت عن مرارة النقد، فقلت: نقد الآخر مر وشاق على نفسه، ومؤلم لها، فالنقد مر فلا نزده مرارة بجفوة أو غلظة أو تجريح أو سخرية أو تنقيص أو استهزاء، فالسخرية ترفضها جميع الأديان «لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم..».
والنقد مر فلا نزده مرارة بافتقاده للعدل والإنصاف، أو جمع مثالب الإنسان كلها أو غمطه حسناته، أو استهداف حياة الإنسان الخاصة أو خلقته أو هيئته أو بأخذ صورة مجتزأة من الواقع والتركيز عليها، «فانقد الفكرة والعمل ولا تهتم بنقد الشخص».
ثم توالت الأسئلة، بعضها لى وبعضها للدكتور باسم الذى أشاع جوا من البهجة والسرور بين ثنايا إجاباته متجاوبا مع صفير القاعة له أحيانا وتصفيقها لنا أحيانا أخرى، وقد لاحظت أن هناك وعيا سياسيا كبيرا لدى الحاضرين، ومعه للأسف صورة ذهنية مشوهة عن الإسلاميين بعد وصولهم للسلطة، وقد نبهت فى كلمتى داخل القاعة وخارجها بعد الندوة على أن الإسلام ليس مسئولا عن هنّات وأخطاء بعض أبنائه، وأنه ليس هناك متحدث حصرى ووحيد عن الإسلام بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم)، وأن الإسلام قضية عادلة يتولى الدفاع عنها أحيانا محامون فاشلون كما كان يردد أستاذنا الشيخ محمد الغزالى.
وهكذا قضيت يوما جميلا من أيام حياتى الدعوية شعرت فيه بمدى تقصيرنا فى حق هذه الدعوة النقية.