فى عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز كتب له أحد الولاة فى اليمن يطلب منه فرض ضرائب جديدة لحاجته لأموال طائلة لبناء سور حول عاصمة الولاية التى يحكمها لتحصينها ضد أى ثورة محتملة، فأجابه الخليفة: «ماذا تنفع الأسوار؟ حصِّنها بالعدل».
فالعدل أساس الملك، وهو الذى يُحصن الحكم والحاكم، وهو الذى يحفظ الأمم من الفتن ويحقن الدماء ولا يُثير البغضاء، وبالعدل ينتشر السلام ويفرض الأمن والأمان نفسه على الناس؛ فلا حاجة بهم -مع وجود العدل- إلى اضطرابات أو احتقانات أو الخروج على الحاكم أو التظاهر أو الاقتتال.
ومع أن مبدأ العدل أساس الملك هو من قيم الإسلام فيبدو أن من يحكمون مصر الآن لا يُدركون قيمة العدل فى تحصين الحكم بدليل أنهم اعتمدوا فى ترسيخ حكمهم على القهر السياسى، وبدلاً من أن يُحصن الرئيس محمد مرسى قصره بالعدل فإنه فضل على ذلك تعلية أسوار قصر الاتحادية، رمز الحكم فى مصر؛ فليس غريباً إذن أن نرى هذا الغضب المتكرر فى الشوارع والغضب المكبوت فى البيوت ضد النظام الحاكم ولم يعد يُجدى مع هذا الغضب الخطب الدينية أو فتاوى إقامة حد الحرابة أو حتى الدعوة للحوار، ومع غياب العدل ستستمر الاضطرابات والاحتقانات ومظاهر الغضب التى تتصاعد مع تنامى الأزمة الاقتصادية حتى تصل إلى الذروة بقيام ثورة الجياع لا قدر الله.
وأول ما تغافل عنه نظام الحكم فى مصر الآن هو العدل السياسى، ونعنى به عدم التسلط والعناد والإصرار على الاستئثار بالحكم وتوزيع المغانم من مناصب أو مراكز مهمة فى الدولة على جماعة الإخوان ومن يناصرونهم مع إقصاء بل واستئصال كل من ليس معهم أو حتى من يقف على الحياد.
والشواهد على ذلك كثيرة من تعيينات لغير ذوى الكفاءة فى مناصب الوزراء والمحافظين، بل وصل الأمر إلى هيمنة جماعة الإخوان على الوزارات الرسمية، ومثال فج على ذلك ما يحدث فى وزارة الخارجية التى يتولاها بطريقة فعلية الدكتور عصام الحداد؛ فهو الذى يقوم برحلات خارجية ويتقابل رسمياً مع رؤساء الدول والحكومات ويُطلع الرئيس مباشرة على نتائج هذه الزيارات، بل إنه يجلس قبل وزير الخارجية الرسمى فى ترتيب «البروتوكول»، فضلاً عما قرره الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، المستشار السابق للرئيس، من أن أعضاء بارزين بجماعة الإخوان -لا صفة رسمية لهم- قد «حطوا» على قصر الاتحادية.
وفضلاً عن إهدار العدالة، فإن النظام الحالى يتبع المفاهيم البالية -التى تتعارض مع العدل- للاستبداد، من تشويه للمعارضة واتهامها زوراً بالعِمالة والخيانة والتخريب، بل والكفر أحياناً بالإضافة إلى الاستخفاف بالمعارضة وبالمعارضين، وأُذكر جماعة الإخوان المسلمين بما كانوا يتعرضون له من ظلم فى عهد النظام السابق الذى كان يتهمهم أيضاً بالعمالة والعمل لحساب جهات أجنبية وتخوينهم فى وطنيتهم.
أفمن العدل الآن أن يمارس الإخوان ما كان يُمارس عليهم؟
ولم يحقق الإخوان العدل الاقتصادى الذى كان الثوار ينشدونه، وكان المطلب الأول من مطالب الثورة «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» بل لم نرَ دلالات على النية فى تحقيق هذه العدالة الاقتصادية المنشودة؛ فالذى حدث أن رجال الأعمال الجدد من المنتمين لجماعة الإخوان قد حلوا محل رجال أعمال الحزب الوطنى المنحل وذات السياسات الاقتصادية تُطبَّق وتعتمد على القروض والاقتصاد الريعى دون الالتفات إلى ضرورة أن يكون اقتصادنا منتجاً، وهو ما سيؤدى إلى الإسراع فى الانهيار الاقتصادى الذى بدأت ملامحه تظهر بوضوح بالارتفاع غير المسبوق فى الأسعار وتدنى سعر الجنيه المصرى وانخفاض احتياطى البنك المركزى من العملات الأجنبية، بالإضافة إلى انهيار السياحة وإغلاق المصانع وتسريح آلاف العمال وأزمات الوقود المستمرة، والسبب فى كل ما سبق هو إهدار العدل بالتصميم على الاستئثار بالمناصب حتى لمن هم عديمو الخبرة؛ فالولاء للجماعة والانتماء لهم هو الأهم.
ويغيب العدل حتى عن العدالة نفسها؛ فنرى سرعة إحالة الإعلاميين وأصحاب الرأى للتحقيقات وأوامر بضبط وإحضار من النائب العام ضد مجموعة «البلاك بلوك» مع ما فى هذا القرار من عوار قانونى فادح -لا يتسع المجال لشرحه- وفى ذات الوقت لا يعلم الرأى العام من النائب العام نفسه الذى يُحيل ويقبض بالسرعة الواجبة على من يُخالفون النظام.. تجده فى ذات الوقت لا يتخذ أى إجراء تجاه جرائم تمت على أبواب القصر الجمهورى من قِبل أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين قبضوا على مواطنين متظاهرين واستجوبوهم وعذبوهم وأسالوا دماءهم على أبواب «الاتحادية» وقد تم رصدهم بالصوت والصورة والأسماء، ومع ذلك لم يتحرك النائب العام بذات الهمة للقبض عليهم أو حتى التحقيق معهم.. لماذا؟ لأنهم حُماة الشرعية كما أطلق عليهم الرئيس مرسى.
الغريب فى الأمر أن بعد كل ذلك يتساءل الإخوان ومن يناصرونهم: لماذا كل هذه الاحتجاجات؟ ولماذا التظاهرات مستمرة؟ فهم يرون النتائج ولا يرون أو يعترفون بالأسباب.
وأختتم بالآيات الكريمة: «وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». صدق الله العظيم.