الفلاحون: هجرنا «الذهب الأبيض» بسبب التقاوى والمبيدات المغشوشة
على بعد 20 كيلومتراً من «كفر مصيلحة»، قرية الرئيس المخلوع، تقع قرية كمشيش، تلك القرية التى حاربت الإقطاعيين منذ الملكية، واستشهد أحد أبنائها المناضل «صلاح حسين»، منذ 45 عاماً، حين كان يدافع عن حقوق الفلاحين ووقف فى وجه الإقطاعيين من كبار الملاك.
فى دائرة تتوسطها صينية شاى صغيرة، جلس بعض فلاحى «كمشيش» على سجادة من الخوص، يقلبون جميعهم فى شريط ذكرياتهم وقت أن كان هناك عصر «الذهب الأبيض»، يتذكرون كيف أن الله أنعم عليهم بتربة سمراء وجو معتدل جعل «للمنوفية» قسطاً كبيراً من إجمالى محصول القطن فى مصر كلها، فمساحة الأرض الزراعية بالمحافظة تبلغ 326 ألف فدان، وكان محصول القطن بها يزرع فيما يزيد على 40 ألف فدان، ولكن وفقاً لمديرية الإرشاد الزراعى بالمنوفية، فالإنتاجية تصل الآن إلى 3 آلاف فدان فقط.
يقلب الحاج عبدالمجيد الخولى، أحد سكان القرية ونقيب الفلاحين فى ذاكرته قليلاً، ثم يبدأ سرد حكاية «قتل القطن» كما يسميها: «كان الفلاحون فى مصر كلها يسيرون وفقاً لدورة زراعية تحددها لنا الحكومة، ويكون كل فلاح وفقاً لتلك الدورة ملزماً بزراعة محاصيل تشترطها علينا هى طوال السنة وكنا نطلق على هذه العملية (التوحيد)، ويصبح كل من يخالف تلك الدورة مخالفاً لقانون الزراعة وتفرض عليه جزاءات، أولها وقف استكمال زراعتها».[Quote_1]
يقلّب «الخولى» كوب الشاى ويرفعه إلى فمه وبعد أن يرتشف الرشفة الأولى يستكمل حديثه: «كان هناك مرشد زراعى يمر على أراضينا ممتطياً بغلته، يتابعنا أثناء الزراعة، ويرشدنا إلى الطرق الصحيحة، وينهانا عن الأساليب الخاطئة، وإذا وجد مشكلة ما فى محصول أى منا يتجه إلى الجمعية الزراعية ويأتى لنا بالعلاج، أما الآن فلا يوجد مرشد زراعى ولا مبيدات صالحة، حتى الجمعية الزراعية فوجئنا بها تبيع الثلاجات والغسالات».
ويضيف: «كان هناك 6 ملايين فدان، ثلثها يُزرع بالقطن، والفدان الواحد نجنى منه 14 قنطاراً، ليصل الإجمالى إلى 34 مليون قنطار، ولكن الفلاحين أحجموا جميعهم عن زراعة القطن حتى صار إجمالى محصول القطن فى قريتنا على سبيل المثال صفراً».
يقول إن هناك خطة للقضاء على المحاصيل الاستراتيجية فى مصر، بدأت بإغلاق كثير من المصانع التى تعتمد على محاصيل القرية، وتسريح عمالها بحجة المعاش المبكر، ويتابع: بعدها اتجهت الخطة إلى التقاوى وسمموها، وقالوا إنها «تقاوى مهجنة» وباعوها للفلاحين بأرخص الأسعار، وفى النهاية دمروا التقاوى المحلية ومحاصيل كثيرة معها.
يلتقط الحاج عبدالقوى، طرف الحديث: «أفضل المبيدات التى كنا نحصل عليها فى زمن عبدالناصر والسادات، حينها كان فدان القطن الواحد يطرح لنا 14 قنطاراً، ولكننا فوجئنا بعد ذلك بمبيدات سيئة للغاية، والتقاوى أسوأ بكثير».
يصف الحاج عبدالقوى، التقاوى التى يحصلون عليها لزراعة القطن: «وجدنا أن التقاوى عبارة عن فصوص منفصلة، والفلاح يغمر الأرض ويتكبد المصاريف والجهد دون أدنى فائدة، فالناتج فى النهاية محصول لا يزيد على قنطار ونصف القنطار، فهل بعد هذا كله ينتظرون من الفلاح أن يتمسك بزراعة القطن؟».
وكأن الجملة الأخيرة أعادت فتح جرح غائر، ليبدأ الحاج متولى الحديث عن زراعة القطن: «كانوا بياخدوا القطن اللى بنزرعه ده، يودوه المحالج ويعملوا منه الزيوت، والباقى كان بيبقى علف للحيوانات، لكن بعد ما جابولنا مبيدات و«تقاوى» مغشوشة، اللى بيزرع القطن بقى كأنه بيزرع فالصو مش دهب».
ناجى إبراهيم شحاتة، أحد فلاحى المنوفية يقول: «الفلاحون فى مصر كانوا فى مرحلة صعود أثناء عهد الرئيس جمال عبدالناصر، لكن فى عهد حسنى مبارك اللى كان يفتح عينيه يغمضوهاله».
بحسرة شديدة، يتذكر «ناجى» حال الفلاحين وقت أن كان القطن اللاعب الرئيسى على أرضهم، يقول: «زمان كان الفلاح لما يزرع القطن، كان فيه 100 واحد يتحايلوا عليه عشان يشتروه منه، لكن دلوقتى بنتحايل عليهم عشان يشتروه مننا».[Quote_2]
يقول رضا عبدالبارى عمارة، أحد فلاحى المنوفية: «الحجر الزراعى بالنسبة لنا، مثل المصفاة التى تمنع عن مزروعاتنا الأوبئة، وفجأة وجدنا الخشب الذى يأتينا به سوس، ونخل البلح به حشرات تقضى عليه، والمواشى التى استوردوها مريضة بالحمى القلاعية، ونحن الآن نترحم على يوم كانت فيه الدولة تعتبر الحجر الزراعى أمناً قومياً».
من جانبه، يرى حسن القط، مدير الإرشاد الزراعى بمديرية الزراعة بالمنوفية، أن أزمة تراجع زراعة القطن فى المحافظة ترجع إلى التسويق، قائلاً: «لماذا يزرع الفلاح القطن إذا كان لن يجنى من ورائه حصيلة تعبه؟، لذا هجر الفلاحون زراعة القطن واتجه معظمهم إلى الذرة، ولكى نعود مرة أخرى إلى القطن، على الدولة أن تضع تلك الخطة فى سياساتها بالمرحلة المقبلة، وأن يعود للجمعيات الزراعية دورها من جديد».
الفلاحون هناك يحلمون بيوم كان القطن يكسو أرضهم، والمصانع تدور بمحصولهم، يحلمون بيوم يعود للفلاح هيبته ودوره فى دولة تزرع وتصدر، ولا تنتظر أن يجود عليها أحد بمحاصيل كانت هى -يوماً- المصدر الأول لها.