لمصر خصوصية تميزها عن غيرها من الدول المتنوعة عرقياً ودينياً وطائفياً، ومن بين أبرز مكونات هذه الخصوصية حالة التداخل والتعايش المشترك، فمع استثناءات طفيفة فإن الغالبية الساحقة من المصريين تعيش حياة مشتركة، فلا توجد مناطق مخصصة لسكن فئات من المصريين على أساس دينى أو طائفى أو عرقى، الحياة مشتركة، ورغم تأثيرات المد الوهابى السلفى منذ منتصف السبعينات الذى حاول التمييز بين المصريين فى الملبس والشكل العام، وحاول دفع المصريين إلى التجمع فى مناطق محددة على أساس دينى أو طائفى، فإن الجسد المصرى فى غالبيته الساحقة لا يزال بخير، صحيح أيضاً أننا ندفع حالياً ثمن تمكين الوهابية بقرارات سياسية من مؤسسات الدولة المصرية وبعض المفاصل الحيوية منذ النظام التعليمى، إلا أن الصحيح أيضاً أن قوى مصر الناعمة لا تزال تقاوم هذه الأمراض جميعها وتتصدى لمحاولات طمس وتشويه الهوية المصرية.
فرضت هذه الخصوصية المصرية نفسها على واقع المصريين تاريخياً، فرغم مراحل التوتر والتضييق فإن المصريين اعتادوا على حل مشاكلهم داخل حدود وطنهم، ومنذ قرون عدة فضل المصريون تسوية ما بينهم من خلافات فيما بينهم ورفض الأقباط فكرة الحماية الخارجية سواء جاءت من القيصر الروسى أو المحتل الغربى، وفى هذا السياق كان الولاء للوطن أولاً وأخيراً، فالرابطة وطنية لا دينية، والأولوية للوطن فى جميع الأحوال.
طبعاً فى عهدى السادات ومبارك تم تحجيم قوى الأقباط المدنية وجرى اختزال الأقباط فى الكنيسة، وهنا برزت أصوات قبطية فى الخارج، تحديداً فى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبعض الدول الأوروبية، بدأت توجه النقد للنظام وجعلت من نفسها قيادة قبطية مدنية فى الخارج، وساهم نظاما السادات ومبارك فى ذلك عبر سياسات التضييق فى الداخل وإضعاف النخبة المدنية، ولأنهم يعيشون فى الخارج كانت أصواتهم عالية ودرجة النقد شديدة ومن ثم بات بعضهم نجوم فضائيات ومنهم من اعتبر نفسه الزعيم المدنى للأقباط ومبعوث العناية الإلهية لإنقاذهم من براثن نظام متشدد. وكان توجههم الأساسى للعواصم الغربية والمنظمات الدولية يشكون النظام والدولة، ومنهم من استجاب لإغراءات أجهزة نظام مبارك وحصل على مقابل للصمت ومنهم من تمنع وكان يرغب فى المزيد.
مع ثورة ٢٥ يناير، برزت نخبة قبطية مدنية أو بمعنى أدق حصلت على فرصتها فى العمل ساعدها فى ذلك جيل جديد من الأقباط خرج خارج أسوار الكنيسة وبدأ يطلب حقوقه كمواطن من مؤسسات الدولة، أيضاً فإن ثورة ٣٠ يونيو التى أعادت الاعتبار للهوية المصرية خلقت حالة من الحيوية على نحو لم تعد معه حاجة ولا مبرر لوجود ولا مجال لنشاط «نشطاء المهجر» فكل ما تريد قوله بإمكانك أن تقوله فى بلدك، وكل ما ترغب فى تحقيقه لك الحق فى المطالبة به، باختصار بات متاحاً العمل داخل أرض الوطن، صحيح الطريق صعب ووعر، ولكن منذ متى كانت تقدم الحقوق على طبق من فضة، فهى تنتزع انتزاعاً وعبر نضال مدنى سلمى طويل تتطور معه ثقافة المجتمع والعامة تحديداً، ومن ثم فكل المشاكل التى نعانى منها وتعانى منها بلادنا حلها مصرى وعلى أرضية وطنية.