تحتاج السطور التالية إلى تركيز، خصوصاً أن ردود فعل الجزء الأول من هذا الموضوع طالبت بمزيد من المعلومات والأرقام والتبسيط معاً! وهى معادلة معقدة للغاية تجعلنا نقفز إلى صلب الموضوع مباشرة مع نصيحة أساسية وهى ضرورة قراءة الجزء الأول لمن لم يقرأوه قبل الاستمرار فى مطالعة السطور التالية.
حجم الأموال السعودية فى الولايات المتحدة الأمريكية غير محدد وتنشره وزارة الخزانة الأمريكية فى تقرير سنوى يجمع عدة دول منها الكويت والإمارات والبحرين وعمان والعراق فى مجموعة واحدة من بينها السعودية. وطبقاً لآخر تقرير تبلغ قيمة الأصول 612.371 مليار دولار كأصول ثابتة فقط، وأموال سائلة مقدارها 285.238 مليار دولار، فضلاً عن امتلاكها لسندات دين آجلة بقيمة 264.768 مليار دولار، وسندات دين عاجلة بقيمة 62.370 مليار دولار، وهو حجم أموال يتخطى التريليون وربع التريليون دولار، وهى أموال معلنة بخلاف الأموال السرية التى تدخل فى شراكة مع شركات أو مؤسسات أمريكية ودولية.. والسؤال باختصار: كيف يمكن أن تنتقل هذه الأموال من أصحابها إلى جيوب وخزائن الشركات الأمريكية العابرة للقارات والتى يتحكم بعضها فى مصير اقتصاديات العالم فعلاً؟ الإجابة نجدها أيضاً وباختصار فى تجربة قريبة وماثلة فى الأذهان.. ففى 16 يونيو الماضى تساءلت صحيفة «اللوموند» الفرنسية عن مصير أموال القذافى وكتبت فى «رأى اليوم» فى العدد نفسه عمن يريد الاستيلاء على هذه الأموال أو التى استولى عليها بالفعل، ووصفت الأمر كله بأنه «أكبر عملية اختلاس فى التاريخ»!
أموال القذافى المسروقة علينا أن نعرف أنها، وطبقاً لتقرير «اللوموند»، تتراوح ما بين 100 إلى 400 مليار دولار «حتة واحدة»، وربما أكثر، حيث لا يعرف الرقم الحقيقى إلا موسى كوسا، رئيس مخابرات القذافى لمدة 15 عاماً، ومدير ديوانه إبراهيم صالح، وكلاهما خارج ليبيا. الأول فى الخليج المعادى للقذافى والثانى فى جنوب أفريقيا وبها جزء من الأموال الطائلة الضائعة!
السؤال المنطقى الآن: ولماذا لا تسحب السعودية كل هذه الأموال؟ والإجابة الفورية هى أن وزير الخارجية السعودى عادل الجبير لوّح بالفعل فى أبريل الماضى بذلك، إلا أنه تراجع فى زيارة ولى ولى العهد إلى الولايات المتحدة، وأكد فى 17 يونيو الماضى أن الولايات المتحدة لا تهدد «الحلفاء»، وهو ما يُبرز حجم الضغوط على السعودية التى تواصلت إلى حد تحذير أمريكا لرعاياها فى السعودية من أخطار محتملة، وكان ذلك فى 21 يوليو، أى بعد ساعات من انتهاء زيارة ولى ولى العهد الأمير محمد بن سلمان لأمريكا!
الضغوط شملت تقارير لمنظمة العفو وعدد من المنظمات الحقوقية، وهى أمور تحدث كلها لأول مرة.. حتى انتهى الأمر إلى موافقة الكونجرس بالفعل على القانون الذى يسمح بمقاضاة مسئولين سعوديين إن ثبت تورطهم فى أحداث 11 سبتمر.
ما المطلوب من السعودية إذن؟ هل اعتبار إيران عدواً وحيداً للمملكة وللخليج؟ هذا يتطلب فضّ النزاع مع العدو الأول والتاريخى للخليج وللعرب وهو إسرائيل.. وقد أشرنا فى المقال السابق لزيارة اللواء السعودى المتقاعد أنور عشقى لإسرائيل، وهو حدث كبير وخطير كانت الجهة التى كشفته هى وزارة خارجية العدو الإسرائيلى، وفى 24 يوليو أيضاً وهو اليوم نفسه الذى حذرت فيه أمريكا رعاياها فى السعودية.. فهل كانت الزيارة مناورة سعودية لتخفيف الضغوط؟ خصوصاً أنه لا يمكن للواء عشقى أو غيره زيارة دولة العدو بغير ضوء أخضر؟ ورغم كون اللواء عشقى مديراً لمركز دراسات سعودى معروف فإنه أيضاً مستشار للأمير بندر بن سلطان سفير المملكة الأسبق فى واشنطن، وكان سفيراً وقت أحداث 11 سبتمبر! وخصوصاً أيضاً أن اللواء عشقى عاد وبرر الزيارة بأنها للأرض المحتلة لأنه يعتبر زيارة القدس زيارة لفلسطين!!
الآن.. نسأل الأسئلة الحرجة: كيف تذهب الأموال إلى جيوب الشركات الدولية التى تسرق العالم كله؟ الإجابة أنه لا بد أن يختفى أصحابها.. وقد أشرنا إلى دور جمعية «بيلدبيرج» السرية التى تضم 150 شخصية تحكم مصير العالم أشهرهم هنرى كيسنجر السياسى الأمريكى اليهودى الداهية، وآخرون لا تقل أهميتهم عنه، من بينهم أغلب رؤساء الشركات الأمريكية والأوروبية العملاقة، وكذلك رموز لكبرى العائلات اليهودية الرأسمالية الشهيرة، وهو ديفيد ولنسون روكفلر، ولتكون المعادلة فى العالم الآن أزمة مالية فى دول الخليج بسبب انخفاض أسعار النفط وأزمة أخرى فى هذه الشركات العملاقة بسبب انخفاض مستوى التجارة العالمية، وربما كان حل الأزمة الثانية على حساب أصحاب الأزمة الأولى والطريقة مجربة، تبدأ بالتحرش السياسى، ثم اتهامات عابرة، ثم تأكيد للاتهامات، ثم تداولها إعلامياً، ثم خلق الأدلة عليها، ثم تقنينها إجرائياً، ثم طلب تسليم مسئولين يقابل طبعاً بالرفض أو بالانشقاق العائلى الداخلى، ثم بفرض العقوبات، ثم بالعدوان المباشر!
السؤال الآن أيضاً: هل لذلك علاقة للجوء مصر لصندوق النقد الدولى؟ الإجابة بالقطع نعم.. الضغوط كانت كبيرة وثقيلة، وتم تعطيل كثير من التعاون مع مصر بالفعل وخصوصاً أن مصر أيضاً كان مطلوباً منها تنازلات كبرى فى علاقتها بروسيا وفى موقفها من الأزمة السورية.. وكان الرفض القاطع هو الرد..
أخيراً: متى يمكن أن يتحرك الجيش المصرى خارج حدوده؟ الإجابة الحاسمة هى عندما تتعرض دول الخليج العربى للخطر الحقيقى.. وبالتالى فصناعة «الخطر الحقيقى» قد يكون مقصوداً بها أيضاً الجيش المصرى المطلوب توريطه فى أى صراع خارج حدوده وعلى الأرض.. وهذا يعنى مباشرة إضعاف حركة التنمية فى مصر أو توقفها.. ويعنى تشتيت الجيش بين أكثر من جبهة.
ما الحل إذاً أمام هذه المؤامرة الكبيرة على الوطن العربى والتى تطور نفسها بعد فشل «الربيع العربى»؟ الحل قلناه سابقاً: ضرورة وقف مناطق اللهب وإطفاء النيران فوق الأراضى العربية فى كل مكان.. فى سوريا وليبيا واليمن والعراق أولاً.. بعدها تصبح الإجابة أسهل كثيراً.