عبد الجبار الرفاعي يكتب : جمال البنا.. داعية «الإسلام الإنسانى»
لم أكن أعرف أن مُهاتفتى معه قبل أسبوعين من وفاته أنها ستكون الأخيرة، وأن الموت سيغيّبه عن عالمنا، بعد أن أمضى رحلة تناهز القرن، فاعلاً ومشاركاً فى صناعة مواقف ومناقشات وجداليات وسجالات وفتاوى ومعارك فكرية متنوعة، متجاوزاً السقف المسموح عرفياً وفقهياً، وعابراً لما هو مشهور أو مجمع عليه أحياناً بين الفقهاء، من دون أن يحترز أو يحذر أو يعمل بالتقية. إنه جمال البنا الذى تحل اليوم ذكرى الأربعين على رحيله، الشقيق الأصغر «غير الفكرى» للمرحوم حسن البنا، مؤسس الإخوان المسلمين فى مصر «الإسماعيلية 1928».
خاض جمال البنا مغامرة التجديد، وتحمّل شتى التُّهم وفتاوى التبديع والتفسيق، بالرغم من أنه ابن الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا، صاحب شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، الذى أنفق 35 سنة من حياته فى تدوينه، وهو الرجل العصامى الفقير، الذى تعلّم خارج الأزهر. ثم طبع «الفتح الربانى»، فى 22 جزءاً، وبعد وفاته أكملت عائلته الطباعة، فأضحى الكتاب فى أربعة وعشرين جزءاً.
طالما ذكر لى جمال البنا أنه كان يرتبط بعلاقة أخوية وعاطفية عميقة بشقيقه حسن البنا، وكيف كان الأخير ذا نزعة صوفية دافئة، يتسع صدره للمختلف، ويتمحور اهتمامه على التربية الإيمانية، يحسن الظن بالناس، ويحذر من أى محاولة للتكفير، غير أن أتباعه ابتعدوا عن رؤيته الإيمانية المتصوّفة. بعد أن استنسخ المرحوم سيد قطب مقولات أبى الأعلى المودودى، ومفاصلاته القاطعة الجزمية، بين «الإسلام والجاهلية، الاستخلاف، الحاكمية الإلهية والحاكمية البشرية..»، وتطبيق كل ذلك على المجتمعات الإسلامية اليوم، فتشبعت بها أدبيات «الإخوان المسلمين»، وأضحت منبع إلهام التربية والتثقيف لديهم.
حين يتحدّث جمال البنا عن أخيه، يُشدِّد على شخصيته الاستيعابية، وروحه الصوفية المتسامحة، ويُدلل على ذلك بطبيعة تعامله معه وثقته به، فقد أناط حسن البنا بأخيه مسئولية «إدارة مطبعة الإخوان»، مع أن «جمال» لم يكن يهتم بأداء الصلاة جماعة فى أوقاتها خلال العمل، أو يهتم بالنوافل، وعادةً ما ينبهه معاون الدار الشيخ عبدالبديع صقر، حين يؤذن لصلاة الظهر، فيطلب منه أن يلتحق بصلاة الجماعة، غير أن جمال البنا لا يستجيب، بسبب انشغاله الشديد بمتابعة عملية التحرير والطباعة، لكى لا تتوقف المطبعة عن العمل من أجل الصلاة، التى يتسع وقتها خارج زحمة العمل. هنا ينزعج عبدالبديع صقر، ويضطر لأن يشتكى لحسن البنا قائلاً: إن «غرفة جمال البنا وكر تاركى الصلاة»، فيجيبه الأستاذ «البنا»: «دعه وحاله». من دون أن يعنّف «جمال» أو يوبخه أو يستهجن سلوكه.
فى كتابه «نحو فقه جديد، ج3: ص39»، يصطلح جمال البنا على مثل هذه المواقف، التى تُفرغ الصلاة من مضمونها الروحى، وتحيلها إلى غاية بذاتها «توثين الصلاة». ويذكر مثالاً على ذلك فتوى للشيخ محمد متولى الشعراوى، يقول فيها: «إن الطبيب الذى يمارس عملية جراحية، ثم يسمع الأذان، عليه أن يترك العملية ويذهب للصلاة». لكن جمال البنا لا يتردد فى القول: إن «ساعة لدراسة الكمبيوتر أفضل من صلاة نافلة».[Quote_1]
يشير جمال البنا إلى أنه تحوّل إلى نباتى، وهذا السلوك مستهجن عادة لدى بعض المتنطعين، ممن يظنون أنه تحريم لما أحله الله، وأنه تشريع مبتدَع. لكن الأستاذ «البنا» لم يفزعه هذا التقليد الغذائى لأخيه «جمال»، ولم يحرص حين يوزّع الطعام أن يشركه معهم.
تواصلت علاقة التراحم والثقة بين الأخوين «البنا»، فعهد الأستاذ «البنا» إلى أخيه سكرتارية تحرير «مجلة الشهاب»، وكانت هيئة التحرير تضم: الأستاذ «البنا» رئيساً للتحرير، والدكتور سعيد رمضان مديراً للإدارة، وجمال البنا سكرتيراً للتحرير، والسيد وهبى الفيشاوى معاوناً للتحرير. كان «جمال» يحرر النصوص ويتابع الطباعة، مضافاً إلى مهمته الأخرى فى متابعة الأحداث السياسية وتحليلها والكتابة عنها، باسم مستعار هو: أحمد جمال الدين، أو أحمد عبدالرحمن.
ولم تذبل أو تجف علاقة الأخوين «البنا» وتعاونهما، حتى اعتقال «جمال» فى 8 ديسمبر 1948، ومكوثه فى السجن إلى 1950، فلم يشهد فاجعة مقتل أخيه، وتشييع والده وسيدات الأسرة المشجعين له.
آلَ ميراث آل البنا من الوثائق والمخطوطات والمكتبة إلى «جمال» بعد وفاة الوالد، والوالدة، والشقيقة فوزية، وعبدالرحمن البنا الشقيق الثانى له. عندما أزوره فى منزله «195 شارع الجيش - القاهرة» أجد المنزل مكتظاً بالكتب العتيقة والأوراق من الأرض حتى السقف، وهو لا يكف يراكم كل ما هو مهم ومميز من كتابات إسلامية بالعربية والإنجليزية.
طلب منى فى زيارتى الأخيرة له، فى 20/1/2011 المجموعة الكاملة لمجلة «قضايا إسلامية معاصرة» ليضمّها إلى رصيد المكتبة. كان يرى أنها «أهم مجلة إسلامية تنويرية جريئة جادة اليوم، وهى تمثل منعطفاً بارزاً فى مسار حركة تجديد الفكر الإسلامى».
توفيت زوجته سنة 1987، ولم يتزوج بعدها، فتحوّل بيته إلى مكتبة ومركز أبحاث ودار نشر. تشتمل المكتبة على ما يناهز الخمسة عشر ألف كتاب عربى، وثلاثة آلاف بالإنجليزية، بالإضافة إلى قاعة مطالعة ووحدة كمبيوتر. تعلّم جمال البنا الإنجليزية مدة سجنه، واعتمد فى تكوينه الفكرى على رصيدها الغنى فى مختلف المعارف والفنون.
كنت أرى فى مكتبه، صورة سيدة، وجهها وديع دافئ مشرق، بحجاب ملوّن حديث «من دون نقاب»، لمّا سألته عنها، قال: «هذه أختى المرحومة فوزية، أسسنا معا (مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى)، ودار الفكر الإسلامى، حيث عملت موظفة وزوجها لمدة تناهز ربع القرن فى السعودية، ووظّفت كل ممتلكاتها البالغة (ربع المليون جنيه) فى البنك، واعتماداً على فوائدها استمرت وتطوّرت هذه الدار، مما أغنانا عن استجداء الدعم من أى جهة حكومية أو غيرها. وأتاح لنا حرية واسعة فى طباعة ونشر كتابات لا تحظى بالإجماع، وأحياناً لا يقبلها القيّمون على الفكر الإسلامى، من مؤسسات وجماعات إسلامية ورجال دين».
تميّز جمال البنا بجسارة وجرأة لم يألفها التفكير الدينى فى مجتمعاتنا، وظل على الدوام يستنهض العقل المسلم، ويحذّر من الإفراط فى استهلاك التراث، وتواصل سُبات العقل، ففى أحد حواراته وصف: «أمة محمد بأنها أعطت عقلها إجازة لمدة 1000 عام»، وهى إيماءة دالة وذكية على توقف العقل بعد القرن الرابع الهجرى.
قليل من المفكرين أدرك أن تاريخنا هو «تاريخ نسيان الإنسان»، لكن جمال البنا وعى ذلك مبكراً، فانحاز للإنسان وقضاياه وهمومه وآلامه وآماله، وفهم الدين بوصفه رسالة مهمتها خدمة الإنسان. ووعى أن مسار التاريخ «ليس سوى وعى الحرية لذاتها» حسبما يقول «هيغل». وأن وجود الإنسان يساوى حريته، فالحرية شرط ضرورى للإيمان والتديّن والتفكير والحياة السليمة من التشوّهات والرضوض والإكراهات. ولم يقبل كل ما من شأنه تقييد حرية الإنسان فى الاعتقاد، حتى إن «حرية الاعتقاد» من أكثر العبارات تكراراً فى كتاباته. لذلك برهن على «أن الإيمان والكفر قضية شخصية، لا يجوز للنظام العام، أو لأى مؤسسة أو أفراد أن يتدخّلوا فيها، لأن الله تعالى غنى عن العالمين، ولن يفيده إيمان المؤمنين، كما لا يضره كفر الكافرين، وإنما يريد الله من الأديان المنفعة للناس». ولم يقبل بحد الردة، الذى لم يطبقه النبى صلى الله عليه وسلم، فى عصره، بالرغم من ارتداد بعض الصحابة فى عصره، «فقد ارتد عن الإسلام العشرات فى عهد الرسول، والإسلام ناشئ والمسلمون وقتئذ آلاف قليلة، فما أثّروا عليه، ولا تعقّبهم الرسول بعقوبة، وبعضهم عاد إلى الإسلام مرة أخرى». مع أن بعضهم كان من «كتبة القرآن فلم يتتبعهم الرسول بعقوبة».[Quote_2]
مضافاً إلى أن هذا الحد لم ينص على عقوبة دنيوية له فى القرآن. ناقش «البنا» الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه». فأوضح عدم قبوله سنداً، لذلك رفضه الإمام مسلم، ولم يقبله المحققون من علماء الحديث.
حرص جمال البنا على: «تعميق وتأكيد الإيمان بحرية الاعتقاد، وأنها أمر شخصى لا دخل للنظام العام به. وهو ما قرّره الإعلان العالمى لحقوق الإنسان». والتمس ما يؤكدها قرآنياً، فاستوعب الآيات التى تصرّح بذلك، مثل: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف 29) «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة 256) «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» (يونس 108).
حذّر جمال البنا من التعصّب الدينى وآثاره فى تفتيت مجتمعاتنا، ونبّه إلى جذوره وبواعثه، واستدل على أن ذلك لا ينسجم مع نهج القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (المائدة 105). والعلاج الحقيقى لديه «هو الإيمان بحرية الاعتقاد»، بل ذهب إلى أننا «عندما نؤمن جميعاً بأن من حرية كل واحد أن يغيّر دينه فلن تحدث تلك التهوسات والانتفاضات.. وسيكون الحال لدينا كما هو فى كل الدول المتقدمة».
تبنّى جمال البنا موقفاً من الفنون الجميلة ينسجم مع مواقفه الأخرى فى القضايا الخلافية، التى تستلهم «مقاصد الشريعة»، فهو يعتقد أن الفنون «كالرسم والنحت.. إلخ، إلهام من الله، وخارج إطار المعايير الدينية، فليس للدين أن يتدخّل فى هذا المجال».
كما اعتبر بعض التشريعات خاصة بفترة زمنية. من هنا صرف دلالة الأحاديث النبوية أو الآيات القرآنية، التى تشير إلى أحكام تحظر بعض أنواع الفنون كالنحت مثلاً، بعصر البعثة، «لأن العرب كانوا أهل أوثان وشرك، وحديثى عهد بهذا الشرك، فأراد الإسلام أن يغلق هذا الباب، فهو إجراء مرحلى». فى سياق مفهومه للدينى «حرث الآخرة»، والدنيوى «حرث الدنيا» يرى «جمال» أن «الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة»، وهو عنوان كتابه الصادر سنة 2004، الذى يرفض فيه دعوة الإخوان المسلمين وغيرهم للدولة الدينية، ويشدّد على أن الدولة مقولة وضعية وشأن بشرى دنيوى، وليست ظاهرة نبوية وشأناً دينياً.
ميزة كتابات جمال البنا استنادها إلى القرآن الكريم كمرجعية لفهمه الخاص، فغالباً ما يوظّف الآيات ويستدل بها على آرائه الخلافية، لكنه لا يتردد فى تجاوز الفهم الشائع بين الفقهاء لآيات الأحكام، وغالباً ما يستنبط منها رأياً لا يتفق مع آرائهم المشهورة. ذلك أنه يعتبر فتاوى الفقهاء خاضعة لمشروطية مكانية زمانية، وأنها غالباً لا تتخطى البيئة والمحيط الذى عاشوا فيه، بمعنى أن لكل عصر منطقه وثقافته، التى تتكلم بفتاوى الفقهاء، «ولم يستطع معظم الفقهاء التحرُّر من روح العصر الذى أحاط بهم وسيطر عليهم»، ويخلص «البنا» إلى توصيف الفقه المتداول بـ«فقه الفقهاء». حيث يكتب: إن «الفقه المطبّق حالياً، ليس هو فقه القرآن، ولا فقه الرسول، ولكنه فقه الفقهاء».
فى كتابه الجرىء «نحو فقه جديد»، الذى نشره عام 1999، فى ثلاثة أجزاء، يحاول جمال البنا إعادة صياغة أصول بديلة للفقه، لا تكرر ما ورثه الأصوليون والفقهاء من «الرسالة» للشافعى. وتحاول أن تستأنف «الأصول الخمسة، أو الكليات الخمس» للشاطبى فى «الموافقات»، وتسعى لتجاوز «فقه المصالح» إلى فقه «مقاصد الشريعة»، ولا تتوقف عند المقاصد، بل تلتقط الجهود والمساهمات والإضافات المتأخرة عنها، فتجترح نهجاً يتوكأ على «القيم الكلية الحاكمة فى القرآن الكريم»، ويعزّز مقاصد الشريعة بـ«مكارمها» تبعاً لما فعله علال الفاسى.
صدرت عن جمال البنا مجموعة آراء فقهية أثارت ردود فعل متنوعة، فقد رفضها معظم الفقهاء، لأنها لا تنسجم مع «أصول الفقه» المتعارفة، التى تحدّد وجهة التفكير الفقهى وترسم مآلاته، كما استخف بها آخرون واعتبروها فتاوى مراهقة.
لا ريب أن آراء المرحوم «البنا» لا يمكن قبولها فى سياق مسارات الاستنباط الفقهى المتوارثة، إلا أن التعرّف على منظومة القيم التى يتمسك بها يفضى إلى مثل تلك الفتاوى. فهو يرى أن «القيم الكلية القرآنية الحاكمة» هى المرجعية التى تُستمَد منها الأحكام، معتبراً «الحرية» أبرز هذه القيم، فإن «دعوة الإسلام لا بد أن تكون دعوةً لحرية الاعتقاد، لأن الرسول دعا الناس إلى إيمان جديد».[Quote_3]
ومن هذه القيم «العدل»، فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فحيث يكون العدل تكون الشريعة. كذلك اعتبر من هذه المقاصد: السماحة والتيسير، ونفى الحرج، والعفو، مضافاً إلى «الرحمة»، التى تكرّرت فى القرآن 320 مرة، ما خلا ورودها حيثما جاءت «بسم الله الرحمن الرحيم» فى مفتتح السور، ووصف القرآن الله بأنه «أرحم الراحمين»، و«كتب على نفسه الرحمة»، ونعت النبى ومهمته بأنه «رحمة للعالمين»، وليس رحمة خاصة بالمؤمنين أو المسلمين، بل هى رحمة تتسع باتساع العالمين، وتتنوّع بتنوُّع تلك العوالم.
هكذا حاول جمال البنا أن يرسم بريشته صورة مضيئة مشرقة لـ«إسلام رحمانى»، «يتجاوز الأطر السلفية، والعودة إلى القرآن واعتباره صيحة إنقاذ، أى باختصار تثوير القرآن، وليس تفسير القرآن». هذه خلاصة لدعوته «الإحياء الإسلامى». وليس غريباً أن تصنّف دعوته بالمروق، فى زمن يسود فيه نموذج «إسلام سلفى»، يختزل الإسلام فى العنف والقتل ومناهضة قيم الحقوق والحريات والخير والجمال.
استعادة مكانة الإنسان فى الحياة وكرامته وحريته هى القضية المحورية فى تفكيره، منذ كتابه المبكر «ديمقراطية جديدة» الذى أصدره سنة 1946، فرفض المفهوم الذى صاغه أبوالأعلى المودودى للاستخلاف تبعاً لـ«ابن تيمية»، واستعاره منه فيما بعد «سيد قطب»، وأسس الأخير عليه رؤيته لمكانة الإنسان وأهداف الدين فى الحياة، الذى يتلخص بجعل الاستخلاف مرادفاً لـ«عبودية الله»، حيث ذهب جمال البنا إلى أن هذا التفسير مشبّع بمناخات الاسترقاق واستبداد «إسلام السلطان» فى تاريخنا، وليس هو سوى «يكفى للدلالة على خطأ فكرة (المودودى) أن الله تعالى لو أراد من هذه الخلافة العبد الطائع الذليل لما زوده بعقل، ولا أتاح له إرادة، أو حرية».
من هنا كرّس الكثير من مؤلفاته للتضامن مع حقوق العمال والمضطهدين، وأنفق حياته فى دعم النقابات العمالية.
امتد عمر جمال البنا 93 عاماً، وواصل دعوته إلى نهاية حياته، بحيوية وجدية ومثابرة فائقة. ظل يكتب وينشر على الدوام، فتجاوزت مؤلفاته المائة وعشرين كتاباً، ما عدا ما واظب على نشره فى الصحافة.
تتطلب رؤاه وأفكاره الكثير من النقاشات والمراجعات النقدية، وهى تشتمل على مادة غنية متنوعة، تستأنف ما بدأه المصلحون فى العصر الحديث، لتضيف إليها، وتعيد تكوينها، وتخرج عليها وتتخطاها.
رحم الله الصديق الجميل جمال البنا، داعية «الإسلام الإنسانى الرحمانى»، الذى لم يكف عن الرغبة فى التجديد، والتفاعل مع العالم، وابتكار صورة مضيئة للإسلام، حتى اليوم الأخير من حياته.