حكايات السودانيين فى القاهرة: أولها سياحة.. ثم إقامة و«زيتنا فى دقيقنا»
إسراء وأمانى وإيمان يروين حكاياتهن
شعبان شربا من نهر واحد يمر بهما، وربطتهما ثقافة واحدة ولغة واحدة، ولم يكن أدل على القرب الإنسانى بينهما سوى القرب الجغرافى، الذى كان سبباً فى اختلاط الأنساب بين العائلات السودانية والعائلات المصرية، يضحكهما إسماعيل يس حتى الدمع، ويطربان على صوت أم كلثوم، ويستمعان بخشوع إلى صوت عبدالباسط عبدالصمد حين يرتل القرآن، ويعشقان جمال عبدالناصر، ويرويان بعزة وفخر عن بطولة السادات، وتملأ بطونهم وجبة الكشرى التى يعتبرونها سراً مصرياً خالصاً.
لا توجد أحياء خاصة بهم نظراً لوجودهم فى كل الأحياء.. والزمالك ناديهم المفضل.. والكشرى وورق العنب والكرنب والمسقعة أكلات وقعوا فى غرامها
استقر بعضهم فى مصر وآخرون يأتون للسياحة فيقعون فى غرامها ليعيشوا بها شهراً وبالسودان شهراً، احتضنتهم شوارع القاهرة التى عرفوا خباياها، وفى الليل تؤويهم المقاهى الشعبية التى يستمعون فيها إلى الأغانى المصرية جنباً إلى جنب، ويلعبون الدومينو والشطرنج، وأكواب الشاى وفناجيل القهوة تأتى وتذهب بينهم، يشجعون الأهلى والزمالك ويحتلون المقاعد الأولى فى المقاهى أثناء مشاهدة المباريات، مكونين صداقة قوامها الأخوة والمحبة منذ القدم حتى تكاد الفوارق بين الشعبين تكون أبسط من أن تذكر، ليعتبر المواطن السودانى نفسه فى بلده وبين أهله، وتحتل جلساتهم على الكورنيش والمساحات الخضراء المنزلة الأولى للأماكن المحببة إلى قلوبهم.
داخل حارة الصوفى فى قلب وسط القاهرة وجوه سمراء تملأ المنطقة التى تعتبر مهد السودانيين فى مصر، فيما تنبعث روائح الأطعمة من داخل المطاعم التى تقدم الوجبات السودانية والمصرية على حد سواء، مقاهٍ صغيرة امتلأت عن آخرها بالشباب السودانى الذى يعود إلى المكان بعد يوم طويل من العمل الشاق للتسامر مع الأصدقاء الذين يتخللهم بعض المصريين الذين ربطتهم علاقة طيبة ببعضهم البعض والذين يميزون الجلسة بإلقاء النكات والمزاح مع الأشقاء السودانيين، وحول إحدى الطاولات جلس ثلاثة من السودانيين، جاء كل واحد منهم إلى مصر لهدف مختلف وظروف مختلفة هى الأخرى لكن حب مصر والمصريين جمع الثلاثة، يجلس عامر خبير، الذى بلغ من العمر 58 عاماً، قضى 30 منها فى مصر، وله فيها العديد من القصص، مرتدياً «جلابية» تعلوها سترة سودانية وطاقية وحذاء سودانيين، ممسكاً بيده جريدة مصرية أنهى قراءتها، يحكى عن نفسه قائلاً: «أنا بقالى فى مصر 30 سنة، جيت هنا بياع لأطباق وأوانى وبقيت دلوقتى تاجر مواشى كبير فى مصر وليَّا ولد وحيد قاعد معايا، ومصر بقت حتة منى وأنا حتة منها»، يرشف الرجل من كوب الشاى ثم يعود بذاكرته إلى الوراء: «حضرت حفلة لأم كلثوم حفلة وهى فى السودان وكنت طفل عندى 10 سنوات وأذكر ساعتها أن السودان عن بكرة أبيها كانت تتوق إلى سماع الست وأنا كنت من المحظوظين اللى سمعوها وشافوها وهى بتغنى» يقاطعه صديقه محمد حسن، صاحب الـ45 عاماً، الذى جاء إلى مصر منذ سنتين قائلاً «تعرف يا عامر إن أغنية أغداً ألقاك اللى غنتها الست كتبها شاعر سودانى اسمه الهادى آدم» فيهز الرجل رأسه بالإيجاب: «بنعشق أم كلثوم وبنغنى أغانيها فى جلساتنا وبنحب عبدالحليم وفريد الأطرش ويومنا مايحلاش غير بسماعهم» قالها «محمد»، الذى أوضح أنه يعمل مراقباً بإحدى الشركات المصرية، مضيفاً: «فيه لعيبة سودانيين كانت شهرتهم فى مصر، زى عمر النور وده لعب 14 سنة، من سنة 1960 لسنة 1974 فى الزمالك، وسمير محمد على، حارس مرمى نادى الزمالك فى الستينات، والرشيدى العبيدى ودول كانوا فى نادى الزمالك، وقرن شطة فى النادى الأهلى، وسليمان فارس اللى لعب فى الأهلى سنة 1948، ده كله حاجات بتدل على اندماجنا فى بعض وإننا فى الآخر شعب واحد».
محمد: بنعشق أم كلثوم وبنحب عبدالحليم ويومنا ما يحلاش غير بسماعهم.. و«ناهد»: التماثيل أكتر شىء بحبه فى مصر
حديث الرجل عن الأهلى والزمالك دفع جلال عبدالرحيم، الشاب السودانى الذى أتى إلى مصر منذ 15 سنة، للتحدث قائلاً: «أنا زملكاوى و80% من السودانيين بيحبوا الزمالك، وإحنا الزمالك فى مصر زى نادى المريخ فى السودان والأهلى زى نادى الهلال، ولما بيكون فيه ماتش بين الأهلى والزمالك القهوة بتتملى عن آخرها بالسودانيين عشان نتابع الماتش»، دول عديدة سافر إليها عامر خبير، مثل الإمارات وليبيا وتونس والسعودية وأفريقيا الوسطى، لكنه يؤكد: «محبتش غير مصر ولا حسيت بالأمان غير فى مصر، ولما بكون فى مشكلة أخويا المصرى بيقف جنبى وبيدعمنى، وحبى للمصريين كبير ويكفى إننا بنشرب من ميه واحدة»، الأمر ذاته يؤكده جلال، الذى أشار إلى أن العادات والتقاليد تكاد تكون متطابقة: «فى الأعراس إحنا متقاربين وفى المآتم وفى الأكل والشرب حتى إننا بنفطر طعمية وفول برضه وبنحب الفتة زى المصريين تماماً» ليقاطعه محمد ضاحكاً: «بس إحنا عندنا فى الأعراس العريس يمسك كرباج ويضرب أصدقائه على ظهرهم واللى يتحرك ميبقاش راجل فى نظر البقية».
محمد حسن، الذى درس التاريخ، يؤكد عمق العلاقة بين المصريين والسودانيين منذ القدم مؤكداً: «إحنا كنا دولة واحدة ومفيش بينا أى فروق وعشان كده لحد اللحظة دى إحنا واحد وبرضه مفيش بينا فروق كتيرة والسودانى بيعتبر نفسه هنا فى بلده الأول مش التانى زى ما بيتقال لإننا فى النهاية أبناء النيل وبينا مصاهرة واختلاط فى القبائل» ثم يضيف مازحاً: «بس انتم عندكم طبق كشرى الحقيقة يخبل العقل، ورغم إن فيه كشرى فى السودان بس الكشرى فى مصر ليه سر خاص محدش عارفه» وتأتى الأماكن التى يسكن بها الثلاثة مختلفة، فجلال يسكن بالهرم وله ثلاثة أولاد وزوجة يعيشون حياتهم فى مصر بسعادة بالغة حسب تأكيده، ويسكن عامر بالمهندسين مؤكداً تميز العلاقة بينه وبين جيرانه الذين يشاركونه فى المواسم صنوف الأطعمة المختلفة لا سيما الحلويات المنزلية فى رمضان الشهية حسب وصفه، ويسكن محمد فى البراجيل، مشيراً إلى أنه يود لو يعرف المصريون كم يحبهم السودانيون وأن يتعرفوا على التاريخ المشترك بين الشعبين ومدى ارتباطهما ثقافياً واجتماعياً.
عامر: لفيت دول عربية كتير.. بس السودانى مالوش غير مصر ومابحسش بالأمان غير هنا
داخل بولاق استقرت أسرة سودانية، من 3 أخوات و3 إخوة لهم فى مصر 4 أعوام، توضح الأخت الكبرى ناهد عمر التى اصطحبت طفلتها إسراء إلى نزهة، أن الأسرة تركت السودان فى محاولة لتحسين أوضاع الأسرة من خلال العمل فى القاهرة، مبينة أن إخوتها يعملون فى مصانع الملابس بأكتوبر «من ساعة ما نزلنا مصر وإحنا مبسوطين ومش عارفة إزاى المصريين مش مقدرين الجمال اللى هما عايشين فيه» تقولها الثلاثينية التى أكدت أنها تأتى بشكل يومى إلى محيط قصر عابدين والجلوس فى الأماكن التى تحتوى على الخضرة، مضيفة «أكثر شىء بحبه فى مصر التماثيل اللى فى الميادين والحاجات الأثرية اللى موجودة فى أماكن متعددة، وعمرنا ما حسينا بفارق بين المصرى والسودانى كإن دماءنا واحدة» تقاطعها أختها أمانى البالغة من العمر 33 عاماً، مشيرة إلى أنها حين جاءت إلى مصر لم تكن تعرف عن محشى ورق العنب والكرنب شيئاً «أنا لما تذوقت محشى ورق العنب والكرنب اتجننت، لأن طعمه جميل جداً وأكلته فى عزومة فى رمضان عند جارتنا فى بولاق ومن ساعتها وأنا بعمله بعد ما تعلمته منها، والجيران المصريين قلوبهم علينا وبيحبونا ودايماً بيساعدونا» وعلى مقربة منهم جلست إيمان أصغر السيدات فى الأسرة والتى درست فى كلية الطب وتخرجت كمساعدة لطبيب أسنان مضيفة «مصر جميلة جداً ونشعر فيها بالدفء بس بنزعل شوية لما نروح مكان نتفسح وندفع ثمن زيادة، ويقولوا لنا انتوا سائحين وبيبقى نفسنا نقول إحنا إخوات وأشقاء مش سائحين لإنه طول عمرنا واحد» الحنطور والتمشية على الكورنيش وشراء الفل والياسمين وأكواب الحمص وطبق «المسقعة» والمخللات المصرية أمور بدت لدى إسراء الطفلة الصغيرة التى لم تتخط الـ13 وهمية «أنا بحب الحاجات دى قوى فى مصر، ولازم كل فترة نخرج نتفسح كلنا، ويومياً بنطلع بره بولاق نقعد فى مكان عام وعمر ما حد اشتكى منا فى حاجة، بالعكس الناس بترحب بينا وبتحبنا» تدرس إسراء بمدرسة أم درمان الإعدادية بالدقى، وهى طالبة بالصف الأول الإعدادى، مشيرة إلى أنها كونت صداقة مع جيرانها فى نفس العمر «بنلعب مع بعض فى الشارع وبيزورونى وبزورهم، ونفسى أفضل عايشة فى مصر عشان حبيتها» تحلم الطفلة أن تكون ذات يوم مضيفة بالخطوط الجوية، مؤكدة حبها للسفر «هسافر لما أكبر وهلف العالم بس هيفضل قلبى متعلق بمصر، وبحب جداً محمد منير وشيرين وأحمد حلمى وأحمد السقا وإسماعيل يس».
أمام تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا عشرات السودانيين الذين يتوافدون إلى المكان بشكل يومى، كان بينهم ناشد خالد، الشاب العشرينى الذى جاء إلى مصر منذ 4 سنوات بهدف السياحة وزيارة عمته التى سكنت مصر منذ 8 أعوام، لكن الزيارة دفعته إلى الاستقرار بمصر قائلاً «بلد جميل جداً وحسيت فيه بالأمن وإنى فى بيتى، وعشان كده فضلت أقعد فى مصر وبشتغل فى محل ملابس، وتعرفت على بنت سودانية وإن شاء الله نتزوج بعد 8 شهور» الشاب الذى يسكن بحدائق المعادى أوضح أنه يحب من الأطعمة المصرية «الفتة» قائلاً «الفتة المصرية مميزة الحقيقة، ومش عارف السر بتاعها اللى بيخليها متميزة عن بتاعتنا»، مؤكداً حبه للمناطق السياحية والتراثية، ومن بينها الأزهر والحسين على وجه الخصوص «يا أخى هنا فيه إحساس مختلف، الشوارع جميلة ووجوه الناس بتحييك من غير ما تنطق ورمضان هنا أحلى رمضان شفته بحياتى» خروج خالد من القاهرة وسفره إلى الإسكندرية فى إحدى المرات على سبيل التجربة دفعه إلى زيارة الإسكندرية بشكل شهرى «بحب الإسكندرية جداً وبقيت مدمن الإسكندرية ولازم كل فترة أروحها أقعد شوية وأرجع القاهرة تانى، وممكن شهر العسل بتاعى يكون هناك».
زيجات كثيرة بين مصريين وسودانيين، إحداها كانت من نصيب الترازى الصافى الذى جاء للقاهرة منذ 5 سنوات وأصبح يمتلك محلاً لقطع غيار السيارات، وأثناء عمله شاهد فتاة مصرية أعجبته فسأل عنها ثم تقدم إلى أهلها الذين وافقوا على الزواج «أنا يعتبر حبيتها من أول نظرة واتقدمت لأهلها ووالدها رحب بالأمر وبعد الاتفاق جاءت والدتى وإخوتى من السودان وتم العرس والحمد لله ربنا رزقنا بإياد دلوقتى» تضيف زوجته علياء «أنا حبيته جداً ولقيته شخص مثقف وعلى درجة من الفهم والوعى والخلق والدين ووافقت وبعيش أسعد أيامى معاه، وربنا يكتبلنا حياة سعيدة مديدة» الترازى يعتبر نفسه «ابن بلد» حسب وصفه مضيفاً «بقيت أتكلم عامية مصرية زيى زى المصريين وبحب مزاح المصريين اللى بيخلينى أموت على نفسى من الضحك، وعمرى ما حسيت بغربة وأنا فى وسطهم، وبقينا مناسبين من مصر خلاص».