كنا -على الأقل- ننام آخر اليوم مبسوطين.
كنا نهرول بين الشىء ونقيضه: بين الحياة والموت. بين الغنى والفقر. بين الفرح والحزن. بين الإيمان والكفر. بين الكبرياء والمهانة... كنا دائماً على حافة كل شىء، وكنا ننام رغم ذلك مبسوطين.
كان لدينا «نظام حكم» نتعلم فيه الكراهية، وكيف «نناضل» ضد الطغيان والفساد والقهر، وكان للكراهية والنضال طعم ومعنى وغاية. كانت لدينا «حكومة»: تسرقنا وتغض الطرف عن سرقاتنا الصغيرة.. تقمعنا وتترك باب الزنزانة موارباً لتخرج منه أبخرة الغضب.. تحتقرنا وتحلف باسمنا -كذباً- أنها تحبنا وأننا نلهمها. كان لدينا «قانون»، وكان خرق القانون «بطولة»، وكانت البطولة نادرة ومعبرة وحقيقية. كان لدينا «رئيس» لديه ما يفخر به، وكنا «نتلذذ» بشتيمته والسخرية منه فى عز جبروته، وكان العقد بيننا وبينه: «يا نحلة لا تقرصينى ولا عايز عسل منك»... وكنا ننام مبسوطين.
كنا نأكل ونشرب ونغنى ونضحك ونخلف عيالاً ونصلى «على فرض ونسيب فرض» ونمارس الرذيلة «كلما أمكن» ونتبادل النكتة بيننا كلفائف الحشيش.. وكنا ننام مبسوطين.
كنا نتسكع فى مولات مصر الجديدة وكافيهات المهندسين و«بلوتوثاتنا» مفتوحة، ونعربد قليلاً فى الكريسماس ونصبغ الفالنتين بأحمر الشفاه، ونشاهد الأفلام بحثاً عن فتيات أحلامنا، ونملأ فراغنا السياسى والثقافى بكرة القدم.. وكنا ننام مبسوطين.
كنا نذهب إلى أشغالنا ونعود بالقليل، ثم نقلب «القليل» بين أيدينا فيصبح كثيراً: بالحيلة والنصب حيناً، وبما يرضى الله حيناً آخر. وكنا نفر من نكد البيوت وثقل المسئولية بـ«خيانات» صغيرة، مجانية، نعود بعدها إلى أعشاشنا بـ«شعرة» طويلة على كتف القميص ورائحة عطر «غريبة» فى ملابسنا الداخلية، وكانت البيوت تغضب قليلاً ثم تغفر لتظل عامرة.. وكنا ننام مبسوطين.
كنا نمشى فى الشوارع آمنين لأن هناك «دولة» تحرسنا وتضمن لكل منا أن يكون «مستقراً» على حافته، وكان للدولة آذان تسمع وعيون ترى وعصا تفرق وتجمع، وكانت الشوارع تؤدى إلى أماكن نعرفها ونعرف كيف نصل إليها.. وكنا ننام مبسوطين.
كنا نتقاتل على رغيف تراب وجركن صرف صحى وكنبة بمقعدين فى مقلب زبالة، وكان يسقط منا ضحايا طوابير، وكانت سِحَن الواقفين فى الطوابير تشبه سِحَن أسرى حرب، يرفعون أيديهم ويدعون الله ليل نهار أن يخسف الأرض بالرئيس والنظام والحكومة والعيال والبيت والدكتور والسباك والبقال والجزار وضابط القسم وإمام الجامع.. وكنا ننام مبسوطين.
كنا نشمر سراويلنا ونخوض فى بِرك الفساد باحثين عن عتبة أمل، وكنا نتعثر فى الموت فننهض وننفض غبار الحزن ونستأنف حياتنا كأننا ذاهبون إلى بعث جديد. كنا نموت «قضاء وقدراً» فى صفحات الوفيات: سقطت ثمرة فى ريعانها، لكن شجرة العائلة تظلل قبر الفقيد.. «كان الفقيد قريب هذا ونسيب ذاك، فالمجد لله وإنا إليه راجعون». وبين الشجرة والمانشيت يبتكر الفقراء صفحات لموتهم الجماعى: عبّارة تغرق.. قطار يحترق.. بيت ينهار.. حادث طريق.. ثأر قديم.. انتحار أسرى. كان موت الفقراء موسمياً وغامضاً... كان أكثر وعياً من «الإرادة»، وأقل حتمية من «القضاء والقدر»، وكانوا يسدون الطرق بسرادقات العزاء، ويسمعون قرآناً غير الذى يسمعونه الآن، ثم ينامون آخر اليوم مبسوطين.
كانت أمامنا فرصة لنكون بشراً حقيقيين. كانت أمامنا ثلاثون عاماً لنغير ما بأنفسنا. تحملنا ما لا يطيقه شعب على وجه الأرض، ونحتنا من معاناتنا تماثيل للصبر والأمل، ثم حدثت المعجزة وتحقق الحلم وأصبحنا أحراراً: نقول للعدل «كُن» فيكون.. نقول للحب «كُن» فيكون.. نقول للخير «كُن» فيكون، فماذا فعلنا؟
ولَّينا علينا أسوأ من فينا!.
ولَّينا علينا من كشف حقيقتنا وفضح غرورنا بأنفسنا وجعلنا نقول غير آسفين: كنا -على الأقل- ننام آخر اليوم ونحن «مبسوطين»، وافهمها زى ما تفهمها: بصراحة.. لا مبارك مخطئ، ولا جماعة «الإخوان» مخطئة، لكن «الشعب» الذى يصبر على مبارك ثلاثين عاماً، ثم يسلم مصيره طائعاً لهذه الجماعة الفاشية.. يستحق الاثنين.