لملم سجادة الصلاة، بعد أن أدى فريضة الفجر ورفع كفيه للسماء طالبا من الله عز وجل أن يوفقه فى تلك المهمة التى سيخرج لأدائها قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود.. بهدوء تام تسلل من الصالة الصغيره فى منزله الذى يقع فى إحدى المناطق العشوائية المحيطة بالقاهرة والتى لم ينجح «جوجل» -الذى يسمع عن قدراته فى الكشف عن «مقاس» الملابس الداخلية لأى شخص- فى تحديد موقعها الجغرافى على سطح الأرض.
قبل أن يشد «الترباس»، الراشق فى باب «مطرحة» غرفة وصالة ليبدأ مهمته.. فتح باب الغرفة التى ينحشر فيها مع زوجته «فاطمة» أو «فاطنة كما تناديها جاراتها» وثلاثة من أبنائه «محمد، 6سنوات، عبدالرحمن، 5 سنوات، وأميرة آخر العنقود، سنتين»، إضافة إلى أمه العجوز ليلقى بنظرة على عالمه الذى يعيش من أجله ويطبع قبلة على «خد» صغيرته. «صابر منسى» هو اسمه وصفته فى نفس الوقت.. حصل على «دبلون صنايع» -هكذا تنطقه أمه- ولم يجد سوى أن يبيع قيراطين للأرض واللذين ورثهما عن والده ليشترى «ميكروباص» يساعده على «المعايش» بعد أن ظل يبحث عن عمل أو فرصة للسفر للخارج أكثر من 10 سنوات، ولكن ما باليد حيلة !..
عندما أدار مفتاح «الميكروباص» -الذى كان يشغل نصف الحارة التى يقع بها «مطرحه»، بينما تولت مياه المجارى الطافحة نصفها الآخر- مر شريط ذكريات أمام عينيه، وشعر بالاطمئنان فالميكروباص الذى يمتلكه هو وسيلته «لدخول الجنة» إذ كان ينقل به مئات الأطنان من السكر والزيت على مدى العامين الماضيين منذ قيام الثورة ليوزعها الناس «بتوع ربنا» على الغلابة!!.. فعلها وقت طرح الإعلان الدستورى أيام «الجيش».. ثم فى انتخابات مجلس الشورى.. والشعب.. وفى الشهور السابقة على إجراء «انتخابات الرئيس».. والاستفتاء على دستور مصر «بما يرضى الله»، وفى كل مرة كان ينقل عشرات المئات من المواطنين إلى اللجان وقت التصويت!
وعندما جاء مرسى رئيساً، كان «صابر» يمتلئ بالفخر كلما ذكر الرئيس «الأهل والعشيرة والأحباب من سائقى التوك توك والميكروباص»، وكان يشعر بأن الرئيس يقصده هو بذاته ولِمَ لا؟ فهو صديقه كما أفهمه ذلك «الناس بتوع ربنا»!
طال الغياب فى المهمة ولم يدرك «صابر» أن شعر رأسه قد اكتسب لوناً فضياً.. وأن ملامح وجهه قد توارت وراء التجاعيد، فهو لا يزال فى مهمته «وكله علشان العيال»، هكذا كان يقول لنفسه عندما يقع فريسة للقلق على أهله.. وعندما انتهت المهمة بنجاح عاد ولم يكن يدرك أن أمه قد انتقلت إلى دار الحق.. ولم يعلم -خلال المهمة - بمرض ابنه الأكبر.. ولا بهروب الأصغر من البيت.. أما «أميرة» فلم تنجح مخيلته فى تحديد ملامحها الآن.. فكل ما رآه عند دخوله الحارة مجرد أنوار معلقة على باب البيت.. وزغاريد تبدد هدوء المكان.. وعلم أن الليلة فرح أميرة ابنته الصغيرة.. وقتها فقط أدرك أن سنوات طوالاً مضت وهو فى مهمته «لتموين الميكروباص بالجاز»!!