مصر المحشورة فى زحمة «ميكروباص» : رحلة تساوى حياة.. صورة مصغّرة من المجتمع بكل مشكلاته وتناقضاته
صورة أرشيفية
قطعة حديد تسير على 4 عجلات، يراها الكثيرون مجرد وسيلة مواصلات تنقلهم من مكان إلى آخر، لكنها فى الحقيقة عالم كبير ملىء بالأحداث والحكايات، مجتمع بأكمله توجد فيه كل الطبقات والمستويات والأعمار، البعض يجدها مكاناً للفضفضة والخروج من ضغوط الحياة والبعض الآخر يراها وسيلة مرهقة، تمثل عبئاً إضافياً عليه، لكن بمجرد دخول هذا الصندوق الصاج الذى يضج بالحياة يتفاعل الاثنان مع الآخرين، ليخرج كل منهما بخبرات مختلفة. رحلة ليست قصيرة من محطة المؤسسة بشبرا الخيمة إلى التحرير، استغرقت نحو الساعة، حملت الكثير من المتناقضات كتلك الموجودة فى المجتمع الخارجى، بدأت الرحلة بموقف يدل على افتقاد الشباب المصرى النخوة، شاب فى مقتبل العمر بمجرد ظهور الميكروباص هرع نحوه للحاق بكرسى، وأثناء ذلك دفع بيده سيدة تحمل طفلاً وتمسك بآخر، مما تسبّب فى عدم لحاقها بالسيارة التى انطلقت سريعاً بمجرد أن حملت العدد المطلوب.
داخل الميكروباص حدث النقيض، رجل يبدو أنه على مشارف الستين من العمر، لم يفز بكرسى، مما دفع شاباً للتخلى عن كرسيه للرجل الذى وقف مستنداً إلى ظهر كرسى: «اتفضل يا حاج، انت راجل كبير قد أبويا، ومش معقول أنا أقعد وانت واقف»، ابتسم الحاج ولسان حاله يقول: «لسه الدنيا بخير».
صندوق الدنيا.. هكذا يمكن وصف السيارة التى تحمل فى أحشائها خليطاً مختلفاً من المصريين، أغلبهم يشكو من ارتفاع الأسعار، ووجدوا تجمعهم فى هذا المكان الصغير فرصة للتعبير عما يجيش فى صدورهم: «والله يا ابنى الواحد مابقاش عارف يعمل إيه، ولّا يعيش إزاى، عندى 3 عيال فى المدرسة مش ملاحق على مصاريف الأكل والشرب والدروس الخصوصية، طب لما هما بيتخرجوا ومايلاقوش شغل، يبقى بيتعلموا ليه؟»، كلمات بائسة قالها رجل فى العقد الخامس من العمر لشاب كان يجلس إلى جواره، ليرد عليه الشاب: «يا حاج أنا خاطب بقالى سنتين وأهل خطيبتى قرّبوا يزهقوا، بس هاعمل إيه مرتبى على قدى، وكل حاجة غالية، مش عارف أشترى حاجة، ربنا يرحمنا إحنا قرّبنا نتجنن».
رحلة خاطفة من شارع الجلاء إلى محطة مترو جمال عبدالناصر، لم تمنع عجوزاً من إبداء ضيقه من سائق ميكروباص يصر على تشغيل أغانى المهرجانات التى تصيبه بغضب: «وطى يا ابنى الله يكرمك، اسمع على قدّك مش لازم تطرشنا معاك»، مما جعل السائق ينفعل عليه: «أنا حر يا عم الحاج فى عربيتى، واللى مش عاجبه ينزل»، لكن الركاب تضامنوا مع الحاج، وعبّروا عن ضيقهم من سلوكيات سائقى الميكروباص وعدم مراعاتهم للركاب، ليشعر السائق أنه على خطأ، ويبادر بالاعتذار للرجل.
كثير من ركاب الميكروباص يحلو لهم تذكُّر الماضى وأيامه الجميلة، وهم فى هذا الصندوق الحار، رجل فى الستين من عمره، استخرج «منديل قماش» من طيات ملابسه، جفف عرقه وحكى للراكب الذى يجلس إلى جواره: «زمان كان فيه ترعة هنا، وعلى الجنب التانى كان فيه زرع وهدوء، كنت باحب أتمشى فى المكان ده، قبل ما يبقى زحمة وكله زبالة وتكاتك»، يمتد الحوار بين الراكبين حتى يصل أحدهما إلى محطته، ويواصل الثانى ترحّمه على أيام زمان. وسط حالة من الهدوء غير المعتادة فى ميكروباص متجه إلى فيصل، ارتفعت أصوات الركاب، كل منهم يتحدث فى هاتفه المحمول، سيدة تطمئن على أولادها، وآخر يتشاجر مع خطيبته، وثالث يتغزّل فى طبيخ زوجته: «طابخة لنا إيه النهارده يا ست الكل».