كان المستشار السياسى لمجلس وزراء دولة معادية يتكلم عن أحوال المنطقة وبما فيها علاقات دولته بمصر.. كان الرجل منظماً مرتباً يدرك معنى كل جملة، بل معنى وهدف كل كلمة وحرف.. تبدو خبرته السياسية وثقافته وقدراته الدبلوماسية على صياغة عباراته وإطلاقها فى الوقت المناسب من الحوار، مما دعانا لأن نسأل: هل لدينا نحن مصر فى مجلس الوزراء مستشار بهذه الكفاءة؟ هل لدينا مستشار قادر على التحدث فى كل قضايا العالم هكذا؟ إلا أن أمراً آخر لفت نظرنا فى الأداء الإعلامى لمجلس الوزراء حتى فى القضايا شديدة المحلية.. التى تحتاج حذراً شديداً فى التعامل معها والحديث فيها.. ولا نعرف إلى متى ستترك طريقة التعامل الإعلامى من داخل مجلس الوزراء هكذا؟ بل لماذا هى هكذا أصلاً؟ فأى دارس لتحليل مضمون الخطاب الصادر من مجلس الوزراء بل والوزراء أنفسهم يكشف أخطاء عديدة كنا فى غنى عنها تماماً.. فمثلاً عن الإصرار على تكرار الحديث عن أن «مرفق المترو يخسر سنوياً أو شهرياً كذا وكذا»، فالمنطق يقول إن هذه الخسارة تعكس فشلاً فى إدارة هذا المرفق قبل أن يكون سبباً لرفع قيمة التنقل باستخدامه، تماماً مثال تكرار القول إن «الفساد يستولى على جزء كبير من الدعم المخصص للطبقات الدنيا»! على أن يخفف من الهجوم على منظومة التموين أو يكون سبباً للتمهيد لاستبدال الدعم النقدى بالعينى، ومعها عبارة «إن منظومة التموين تحتاج إلى مراجعة كشوف المستحقين التى يوجد بها أعداد كبيرة غير مستحقة»! وكلا العبارتين تعنيان فى أول فهم لهما أن هناك خللاً حكومياً فى كليهما وأنه يجب محاسبة المتسبب فى الفساد الأول وفى الإهمال الثانى!
مثل هذه العبارات تأتى بنتائج عكسية وتضر قبل أن تنفع على عكس ما يتخيل أصحابها، وكان من الممكن استبدالها بعبارات: «ثقة المصريين بالمترو تتزايد بما يتطلب من تطوير المرفق كله وتحديثه»، أو «مصر تحتاج إلى خطوط مترو جديدة لتغطية القاهرة كلها ومن الأفضل أن يتكفل المرفق بهذه التوسعات دون تحميلها للموازنة»! فى حين يمكن صياغة العبارتين الأخريين بـ«المواجهة مع فساد منظومة التموين لا تتوقف والحرب مستمرة لمصلحة المستحقين»، و«تنقية الكشوف لا تتوقف وحق البسطاء لن نتركه لغير المستحقين»! وهكذا تبدو العبارات الأخيرة أكثر قبولاً وتمنح آفاقاً جديدة لتناولها وتعطى صاحبها تضامناً وتعاطفاً وليس استهجاناً وغضباً!
ومن العبارات الشهيرة أيضاً القول المتكرر «الحكومة تحملت كثيراً وتأخرت فى رفع الدعم»، حيث تبدو العبارة انتقامية أكثر من أى شىء آخر، بينما صياغتها كالتالى: «لا نرفع الدعم فشعبنا يستحق الكثير إنما نعيد توجيه الدعم إلى من تقرر الدعم لهم»! أو «ما يجرى إعادة توجيه الدعم ليصل إلى مستحقيه وعلى المستحقين دعم القرارات لآخرها»! وهكذا، بينما تتكرر دائماً عبارة «عملنا محطات كهرباء كثيرة لحل مشاكل أزمات انقطاع التيار لكن هنجيبلها فلوس منين ولازم نتحمل»! وهنا سيكون رد أى مواطن حتى لو فى سره أن الحكومة تحل مشاكلها على حساب المواطنين، بينما سيقول آخرون «إن انقطاع التيار أفضل من الفواتير المرتفعة»، و«الحكومة بتصلح الأخطاء على حسابنا»! بينما أصلا تبدو عبارة «مصر تستعد بدعم أبنائها إلى انطلاقة فى الطاقة وكل مصرى سيكون فخوراً أنه ساهم فى التأسيس لقاعدة صناعية كبرى»! أو «ما فعلناه فى مجال الطاقة سيكون محل فخر كل مصرى، حيث سنوفر طاقة قادرة على استيعاب أى نهضة صناعية وليس فقط منع انقطاع التيار»! وهنا تبدو العبارات تحفيزية تشرك المواطن فيما يجرى وفى انتظار نتائجه وليست عبارات تحمله أعباء لأخطاء لا ذنب له فيها!
وبينما يسارع الوزراء بطريقة تبدو مستفزة فى النفى وبإصرار لافت أى أنباء عن قرارات تمس الأثرياء ورجال الأعمال مثل النفى السريع والقاطع لنبأ دراسة الحكومة لفرض الضرائب التصاعدية التى تحولت إلى مطلب شعبى كبير، حيث جاء النفى لمجرد «تفكير الحكومة ودراستها للموضوع» وليس «لإقرار القانون المقصود فعلاً»، وبهذه الطريقة وفى ظل السرعة فى الإجراءات الاقتصادية التى تطول الطبقات الوسطى والدنيا، بينما تشاهد هذه الطبقات كيف يسارع المسئولون بالنفى القاطع والسريع لكل ما يطول الأغنياء! وهذه الطريقة تبدو مستفزة لأبناء هذه الطبقات والفئات.. وطبعاً يحاول وزير المالية طمأنة رجال الأعمال أو المستثمرين لكن يمكنه ذلك لو تم ترتيب السؤال ليبدو تلقائياً أو جاء فى معرض الحوار أو حتى لو نفاه بشكل دبلوماسى كأن يقول: «فى الوقت الحالى لا أتصور ذلك»! أو «لم تتم مناقشة هذا الموضوع أصلاً»!
والحال نفسه عند الاقتراب من موضوع «الصناديق الخاصة»، أو عند الحديث عن «الحد الأقصى للأجور»، وفيهما لا يتم التعامل بدبلوماسية أو بلباقة تؤدى الهدف من التصريح بل إن رئيس الوزراء نفسه رد على سؤال رؤية الحكومة لتعويض الطبقة الوسطى بعد الإجراءات الأخيرة، فجاءت إجابته بالكامل عن الطبقات الدنيا! وهنا تكون الإجابة قطعاً مستفزة للطبقة الوسطى بكاملها!
باختصار يبدو الأداء الإعلامى للمكتب الإعلامى برئاسة الجمهورية هو الأفضل والأرقى، حيث يتم بهدوء وبلا ضجيج ولا يشتبك مع وسائل الإعلام إلا إيجابياً، بينما يضر إعلام مجلس الوزراء بقضايا مهمة وبمستوى طرحها أمام الناس.. ويحتاج الأمر إلى مراجعات عاجلة وسريعة لا تتوقف فقط عند حدود ديوان مجلس الوزراء وإنما عن حدود الوزارات والهيئات العامة كلها.. بل يحتاج بعض الوزراء إلى دورات عاجلة أو على الأقل تعليمات صارمة بمراعاة الدبلوماسية والفطنة فى التصريحات الإعلامية..!
لا تستهينوا بالأمر.. كثيرة هى المشاكل الناتجة من التعامل الخاطئ مع وسائل الإعلام، ليس فقط لمنحه الفرص لإعلام الشر لتوجيه الهجوم للحكومة، ولكن أيضاً لأنه تعامل خاطئ مع المواطنين!