لستُ أزعم أنني كثير القراءة، لكنني أقرأ على أية حال.. ليس إيمانًا بأن القراءة تصنع المستقبل، وأنها السبيل لارتقاء الأمم فحسب، إذن لماذا أقرأ؟!على قدر بساطة السؤال وتوقّع إجابته، فإنه من أصعب الجدليات الوجودية.. حسنًا، الإجابة متشعبة: أقرأ لأنظر من أعلى، وأقرأ لأتخيرَ زمنًا أعيشه، وأقرأ لأغذي معارفي، ولأزداد تبصُّرًا، أقرأ لأصقل خبرتي، وأقرأ للاستمتاع، وأقرأ لأفهم غيري، وأقرأ لأستوعب محيطي، وأقرأ لتعويض ما يفوتني.. لتنمية ذائقتي، وضبط أسلوبي، وأقرأ لأحذِّر غيري، ولأفهم رمزًا أخفاه كاتب عبقري، أو أكتشف غابة بكرًا لم يمشِ فيها غيري، وربما أقرأ لأكتشف مواهب دفينة، أو نصوصًا تكاد تنقرض، أو مخطوطات أودع فيها التاريخ سرّه.. وغير ذلك كثير.وربما لا أقرأ لذلك كلهبل ربما لا أعرف حقًّا لماذا أقرأ!!ربما أقرأ لأتحسس الكون من حولي، ولأعرف كيف يفكر الناس.. أقرأ لأن القراءة هي الثابت الوحيد في دنيا متغيرة.. وهي طوق النجاة في عالم مضطرم!أو لأنني أستمتع بما أقرأ، ويتحول إلى هدف ورجاء.. أقرأ فأهم بشكل أكثر وضوحًا سبب البكاء، وإحساس الغير، ومعايشة الآخر.لست أدري على وجه التحديد..لكنني متأكد أن القراءة تستحقّ!!ولا أستطيع الابتعاد عن الكتابعوّد نفسك القراءة إذن، وردِّد مع الزاهد: (ما دام العبد في الطريق، فهو يرتقي من حال إلى حال).وقد اخترتُ لك في هذا المقال خمسة كتب (أربع روايات وكتابًا فيزيائيًّا) من أعظم ما قرأت، تستند لرؤيتي الشخصية، وخبرتي الذاتية، لم أعبأ بالأكثر مبيعًا، ولم أهتم بقوائم أفضل الكتب.. فكلها تعود لخبرة أصحابها، ولي خبرتي المتواضعة التي تكفيني، وسأشارككم إياها، عسى أن تجدوا فيها ما يرضي طموحاتكم القرائية:
1- «ساق البامبو»
هي رائعة سعود السنعوسي، لا شك.. الكاتب الكويتي الشابّ نديم القلم، ثاني إبداعاته، وأولاها بالفخر. تحكي قصة (عيسى).. (خوزيه) أو قل (هوزيه) عربي الأب، فلبيني المولد، ابن الكاثوليكية والخليجي المسلم.. الفتى المتردد بين خالته العاهرة المغتصبة سابقًا، وجَدَّتِه محكومة العادات والتقاليد البالية، وأبٍ لا وجودَ له، وجدٍّ يناديه بابن الزنا، ويخيفه من أسطورة الأناناس! وبين الفلبين حيث قضى شطر حياته الأول مُبعدًا عن أبيه بقوة العار! والكويت التي هوى إليها على وعدٍ كان ألقاه أب في بلاد النفط على عجل، ثمّ أجَّلَه، تبدأ رحلة المتاهة بين هويتَيْنِ، ودينينِ، وجغرافيتَيْنِ، ووطنَيْنِ، وعاداتٍ متضارِبة، وإرهابينِ.. دوامة قاتلة ضبابية، غير أنها رائعة منسجمة، من معبد بوذا إلى الكنسية، ثم إلى المجون فالمسجد!!قالت لي أختي بعد أن أنهت الرواية: لو رأيت عَمَّات خوزيه في الشارع لعرفتهنّ!! لم يكن غريبًا أن تفوز بـ«البوكر».براعة قلم لا تضاهيها سوى ضخة أحاسيس متضاربة، كأنك وأنت الذي لم تغادر قريتك، طُفتَ معه في جبال الفلبين ومولات الكويت.. كأنك ترى صورة مصغرة من معاناة الإنسانية، وفرط جهلها وغبشها. وحين تقف قبل النهاية بفصلين، ربما تقول له كما قلتُ: لا عليك يا سنعوسي.. أنهِ الروايةَ كما تحبّ.. فقد أعجبتني!!
رابط الكتاب المصور:http://www.4-read.com/2014/12/pdf_43.html
2- «يوتوبيا»
تعرفونَ تلكَ المدينةَ الفاضلةَ التي توقَّعَ أفلاطون أن يعيش أهلُها في توادٍّ وتحابّ، منعمين بخيرات تقسَّم بينهم بالتساوي، ولا يسعون إلى الانتقاص من بعضهم، «يوتوبيا» هي هذه المدينة مع بعض الفروق، البشر فيها أنانيون، يحوزون خيرات مجتمعهم، ويسرقون الجميع ويقتلون الجميع، ولا يبالون بالجميع.تحكي روايةُ المبدِعِ أحمد خالد توفيق كيف أن الرفاهية والتنعُّم الزائدَيْنِ قد يدفعان إلى محاولةِ التغيير، ولو كان في الأمرِ بعضُ مخاطرةٍ بالنَّفْس، ليتتبعَ رحلةَ شابٍّ وفتاة من يوتوبيا العظيمة إلى أحياء القاهرة في عام مستقبليٍّ غير محدّد الملامح، غير أنه يبدو قريبًا للغاية، البشر فيه لم يعودوا بشرًا، هم أشبه بالزواحف والحيوانات الجرباء وإن اكتسوا بمظهر يُشبِه البشر.ومع اكتشاف بديل للبنزين توقَّفَتِ العربات بهذه الأحياء عن العمل، والمترو عن الحركة، فلم تعد وسيلة مواصلات سوى في يوتوبيا، ولا طعام سوى في الأعلى، ولا حياة تقريبًا.. بالأسفلِ عالمٌ فوضويّ تعتاش منه النساءُ ببيع أجسادهِنَّ، والرجال بالفَتْوَنة أو البحثِ عن لقمة عيشٍ وسطَ أطنان القاذورات.الرواية يكتنفها بطلان؛ وجهانِ في المرآة لعالَمَيْنِ متناقضين، كلٌّ يقصّ من وجهة نظره حياة تشبه الصورةَ والنيجاتيف، والقارئ يرى تبدلات المشهد المصري في رمزية قاهِرَةٍ، عظيمةٍ في بساطتها، وواسعةٍ عميقةٍ على سهولةِ هضمها وفهمِها، وشخوصُها واقعيون حد الرعب.لو أنني لم أقرأْ هذه الروايةِ في 2006، لأقسمت غير حانثٍ أنها كُتبت بعد ثورة يناير؛ عندما تقرؤُها ستفهم كيف أنها تأريخٌ يشي بتوقُّعِ كاتبِه للتحولاتِ العميقةِ في المجتمِع، وكيف يجازى الإحسانُ بالإساءةِ، وكيف يُصبِحُ الثعلبُ كلبًا!!
رابط للكتاب المصور:http://www.4-read.com/2014/12/pdf_34.html
3- «أشياء تتداعى»
كيف تتداعى الأشياءُ وتنهار؟ كيف يحدثُ ذلكَ الانهيار، والأهمُّ.. هل يتمُّ فجأةً في مجتمعٍ ما، أم على مراحلَ مثل أحجارِ الدومينو!!يطرح شينوا أتشيبي علينا روايةً عن مجتمعٍ نيجيريٍّ مُنغَلِق، حيث الأطفالُ التوائمُ روحٌ شريرة لا بدَّ أن تموت، وحيثُ الثأرُ هو القانون، والزوجاتُ محطات، كلما زِدْنَ في جعبة رجل، زاد نفوذه، ومن زادت أراضيهِ وثماره، سُمع صوتُه، واحتُرم كلامه.روايةٌ عن الأرواحِ الهائمةِ، والمجتمعاتِ المأزومة، وفجر المسيحية والتبشير، والصراعِ بينَ الكنيسة والوثنية، وبين العلم والخرافة، وبين القيم الراسخة ورياح التغيير.. رواية محبوكة في لغتها، كأنها لا تعوزها الترجمة!!رواية مشحونة بالضحكِ والبكاءِ والتأملِ والحكمةِ والرمزِ، تُغرِقُك في ساحة ترى فيها قريتَك وماضيَها القريبَ أساطيرَها وحكاياتها الشعبية.. تتألَّمُ ولا تُغيِّر، تتعاطف ولا تتكلم، وفجأة تجدُ الأمل في التداعي، وتصبح على يقينٍ من أنه لا بدَّ أن ينهار مركزُ الدائرة لتتبعه الحوافُّ، كيف سيتم ذلك..؟ سترون إذا قرأتم.رابط الكتاب المصور:http://mybook4u.com/component/ars/download/final/4652
4- «فيزياء المستحيل»
من تأليف ميشيو كاكو، ترجمة: د. سعد الدين خرفان، في سلسلة «عالم المعرفة»، العدد 399.هل فكرتَ كيف يمكن بناء آلة زمن أو إذا كان من الممكن صنع مسدس ليزري، أو ما إذا كان من الممكن اختراق الحائط، أو الانتقال إلى كواكب أخرى، هل يمكنك معاندة الجاذبية، أو بناء درع واقٍ من الإشعاع، أو صنع «طاقية الإخفاء».. كل هذا وأكثر يتعرَّض له كاكو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء النظرية، وأحد الذين يحبون أن يخلطوا العلم بالرفاهية والمتعة، وأن يعرض المعضلات العلمية في صورة مبسَّطة يفهمها الطفل الصغير..في كتابه هذا قسَّم المستحيلات إلى أصناف ثلاثة؛ مستحيلات من الصنف الأول، وهو ما يمكن صنعه في المستقبل القريب، ومستحيلات من الصنف الثاني، وهو ما يلزم عقودًا وربما قرونًا لفعله، والصنف الثالث وهو ما لا يمكن فعله بفهمنا الحالي للفيزياء، ويتطلب تغييرًا في مبادئ الفيزياء المعروفة لدينا..الكتاب ممتع ورائع، ومفيد، ويطلق الخيال، ولا يلزم أدنى خبرة أو معرفة بعلم الفيزياء.. ستبحر معه، وتنسى الوقت.http://ask2pdf.blogspot.com.eg/2014/03/physicsoftheimpossible.html
5- «عيناها»
رواية إيرانية تأليف برزك علوي، ثاني مبدعي إيران بعد صادق هدايت صاحب «البومة العمياء»..من أعظم ما قرأت، رواية فريدة من نوعها، تدور حول لوحة رسمها المناضل العظيم، الذي اغتيل على يد قوات الباسيج، البطل مدير متحف موضوعة فيه هذه اللوحة الرائعة، يحرسها بدمه، على يقين بأنه سيرى صاحبتها ذات يوم، لتحكي له عن سيرة المناضل..تأتي صاحبها، ويساومها على اللوحة، يعرِّض حياته للخطر، ويستمع منها إلى يوميات المناضل، ودورها في حياته.رواية من العيار الثقيل، محمَّلة بروائح البخور، من بلاد البازار، تريك قطاعًا من الظلم والتهميش، والعفوية في مجتمع، رغم ما يبدو من انفتاحه، منغلق ومتزمت، ويحاسب على رمشة العين، تشتبك خيوط الرواية على نحو عظيم، وتدور بين فرنسا وإيران، ومناطق أخرى في العالم.. تُسكِر من فرط دهشتها!
https://ia802603.us.archive.org/26/items/ketab1220/ketab1220.pdf
وفي المقال التالي بعون الله نتناول بعضًا آخر من (أعظم ما قرأت)..! (ماشي)؟!