«جهنم هى الناس».. تعبير مجازى يمكن أن يُطلق على واقع، لا يوجد فيه نظام ولا قانون ولا حدود، يتحرش البعض بالبعض، مادياً ومعنوياً، ولا يجد فيه الفرد يداً تساعده أو شخصاً يعاونه أو أحداً يتركه فى سلام؛ فيكون الكل عدواً له، ويستحيل (يتحول) المجتمع إلى عداوات قائمة أو محتملة، وإلى صراعات ظاهرة أو خفية، وإلى خلافات غالباً ما تكون بغير أساس.
هذا التعبير أطلقه المسرحى الفرنسى جان بول سارتر فى إحدى مسرحياته، ليقصد إلى مفهومه الواضح، حين تكون مجموعة فى حجرة فيـُعذّب كل واحد غيره بطلب خاص به لا يراعى فيه الآخرين، وتصبح الغرفة صورة من جهنم.
ذلك أمر تنبه إليه مسرحى يقيم فى باريس، مع أن باريس بلد النور (بمعنى المعرفة والعلم) وكل شىء فيها منظم ومرتب ومحدد، ولا يخرج عن هذه الأطـُر إلا أقل القليل، فما يا ترى الحال فى بلاد أخرى، خاصة بلاد الشرق الأوسط التى تعنينا بالدرجة الأولى؛ لأننا نـُقيم فيها ونتجرع العذاب غُصصاً من كل جانب وفى كل حين؟
من المعروف عن الشعب البولونى أنه يعشق وطنه بولندا، وأن لدى كل مواطن فيها رغبة حادة فى حمايتها والذود عنها والموت فى سبيلها. وعندما احتلها النازى عام 1939 عيّنت سلطات الاحتلال قائداً ألمانياً ليسوس أمورها. وقد أرهق البولنديون سلطات الاحتلال بمقاومتهم لها بكل سبيل. فأرسل القائد الألمانى برقية طويلة يسرد فيها تصرفات الشعب البولونى ومقاوماته للسلطة المحتلة، ليل نهار، بكل وسيلة، وبكل قوة. فجاءت إلى هذا القائد برقية من هتلر تحمل سطراً واحداً هو بالإنجليزية: PUT THE MALWAYS IN EXTREME TROUBLE، وبالعربية: ضعهم دائماً فى أقصى المتاعب. نفَّذ القائد العسكرى المحتل تعليمات زعيمه، فبدأ فى اختلاق المشاكل واصطناع المتاعب وابتداع العقبات، فكان الموظف يسأل عن مرتبه فى اليوم المحدد لصرفه، فيقول له الموظف المختص بالصرف: «نأسف لأن التحويل لم يصل»، ويتكرر ذلك أياماً وأياماً. ويعود المواطن إلى بيته فلا يجد عشاء؛ لأن زوجه وقفت فى صف (طابور) طويل جداً حتى إذا ما حان دورها فى شراء الخبز، وجدته وقد نفد. فتذهب إلى سوق الخضار فلا تجد شيئاً تشتريه، ثم تذهب إلى القصاب (محل الجزارة) فتجده مغلقاً لعدم وجود لحوم. وهكذا، يجلس الزوج والزوجة، ومعهما أطفالهما، وهم جياع، لم يأكلوا طوال اليوم، ولم يجدوا فى البيت عشاء ليتبلّعوا به.
هذا مثل واحد، وقس عليه تعطل المصالح فى الدواوين الحكومية، وزيادة الأسعار إلى حد لا يقدر على شراء السلع إلا أصحاب الدخول المرتفعة جداً، وتقليل وحدات المواصلات بحيث يصبح الانتقال -ولو فيما بين العمل والمنزل- جحيماً لا يُطاق، من التعطل والتزاحم والتوقف المستمر. إن جهنم وعذابها ليس وضعاً مؤجلاً إلى الآخرة، لكنه حتماً واقع من الحكومات التى لا تعرف كيف تحكم، ويستديم العذاب وتفتح جهنم أبوابها، عند الشعوب الجاهلة التى لا تعرف من الإيمان إلا حروفاً لا تتعدى الشفاه. وحين تفتح الحكومات الفاشلة الفاسدة أبواب جهنم، وحين يفتح كل مواطن على مواطنيه أبواب جهنم على مصاريعها.. حين يحدث ذلك، فقل على الدنيا السلام.