تلقيت فى الأسبوع الماضى دعوة كريمة من الروائى المصرى العالمى الدكتور علاء الأسوانى لحضور حفل توقيع روايته الجديدة «نادى السيارات». وبمجرد أن دخلت مبنى الأوبرا شعرت بأننى فى بلدى الذى عرفته؛ مصر الحضارة والتاريخ والإبداع والفن. وحين دخلت المسرح المكشوف أسعدنى هذا الحضور الطاغى للجمهور، فبالرغم من دخولى للمسرح قبل الموعد إلا أننى لم أجد مقعداً إلا بصعوبة وبمساعدة من منظمى الحفل، وكان المكان مبهجاً، ودل ازدحام المكان على حرص المصريين على الثقافة، بل وعلى اشتياقهم العارم لمثل هذه اللقاءات. وشعرت أن الزمن قد عاد بى إلى مصر الجميلة التى اشتقنا إليها جميعاً، مصر التى أنجبت العلماء والأدباء. مصر التى أنجبت أصواتاً خالدة أمثال أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ومعهم أصوات الشيخ محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد والحُصرى ومصطفى إسماعيل والنقشبندى، مصر التى أنجبت مبدعين أمثال صلاح جاهين ومرسى جميل عزيز والأبنودى وأحمد فؤاد نجم وبليغ، مصر التى أنجبت يوسف وهبى وجورج أبيض وفاتن حمامة ومارى منيب ويوسف شاهين، ومصر التى أنجبت الشيخ محمود شلتوت وعبدالحليم محمود والبابا شنودة والشيخ محمد متولى الشعراوى، مصر أميرة الشعر فى العصر الحديث التى أنجبت أمثال أحمد شوقى وحافظ إبراهيم ومحمود سامى البارودى وفاروق جويدة، مصر التى احتضنت عروض الأوبرا العالمية وشهدت النهضة المسرحية فى الستينات، مصر التى أظهرت وأنضجت مواهب عربية لم تكن لتوجد إلا فى البيئة المصرية الحضارية أمثال نجيب الريحانى، فايزة أحمد، فريد الأطرش، أسمهان، صباح، وردة الجزائرية، سليم سحاب، مصر الإبداع والفن الراقى والتى أنتجت أفلاماً دينية وتاريخية تشيد بالإسلام وعظمته وسماحته مثل الناصر صلاح الدين الذى أخرجه المسيحى المصرى العبقرى يوسف شاهين، مصر التى أنشأت أول إذاعة خاصة للقرآن الكريم تلاوة وتفسيراً وفى ذات الوقت إذاعة البرنامج الموسيقى لإذاعة الفن الراقى من الموسيقى الكلاسيكية والسيمفونيات العالمية والمساحة لا تتسع لاستعراض الأسماء والأعمال من كثرتها وتنوعها، مصر التى كانت تُعرض فيها خطوط الموضة قبل أن تُعرض فى باريس، وفى نفس الوقت هى التى كانت تصنع وحدها كسوة الكعبة المشرفة بخيوط من ذهب. مصر النموذج فى الترابط والتماسك، والتى لم تفرق أبداً بين مسلم ومسيحى، فالكل أبناؤها.
كل هذا الثراء الإبداعى والثقافى والعلمى والفنى هو الذى جعل من مصر قوة ناعمة كبرى على مستوى العالم أثرت فى محيطها العربى والأفريقى والدولى وجعلت للمصرين هيبة ومكانة مُستحقة تتباهى بها بين الأمم.
كان حضور الحفل من المسلمين والمسيحيين، من الشباب والشيوخ، من الفنانين والأدباء والشعراء والعلماء، من السيدات المحجبات والسافرات، الكل فى واحد هو حب الثقافة وعشق الوطن والحنين لمصر الحقيقية، مصر الوطن الذى غلفته مؤخراً ومؤقتاً ظلمة فى الفكر وجهالة وتعصب فى الدين وفشل فى السياسة وضحالة فى الثقافة والفنون والآداب. فهل يُقبل بعد كل ما سبق أن يأتى على مصر زمن أغبر تعيس ليسحب كل هذا الرصيد والزخم ويطفئ هذا الوهج الذى أضاء للعالم وبدد بنوره ظلمات الجهل والتخلف؟
لقد مر بمصر كثيرٌ من الظروف الاقتصادية الصعبة، ولكن كنا دوماً نتغلب عليها بالرضا والقناعة التى تربى عليها الشعب المصرى الوسطى فى تدينه المتسامح والمعتدل. وحين بدأ الفنان الكبير عزت العلايلى قراءة مقاطع مختارة من الرواية وردّت عليه الفنانة الجميلة يسرا فى ديالوج بين اثنين من أبطال الرواية تفاعل معهما الجمهور الحاضر انفعالاً يُنبئ عن مدى شوق هذه العينة من الحضور -التى تمثل غالبية الشعب المصرى- لمصرنا الحبيبة العريقة المتحضرة والمتنوعة. والغريب أن وزارة الثقافة المنوط بها أساساً رعاية الثقافة وتشجيعها ودعم الأدباء والمبدعين لم يكن لها أى حضور أو وجود، بل وكأن هذا الحدث الثقافى الكبير يجرى فى بلد غير مصر، فلم تُكلف خاطرها برعاية الحفل، ناهيك عن عدم تمثيل الوزارة على أى مستوى ولو بإرسال مندوب عن وزير الثقافة، والذى كان يتعين عليه الحضور بنفسه لأن هذا الحفل الثقافى يصب فى نهر الثقافة المصرية، ولو كنت عضواً فى المجلس النيابى الآن لم أكن لأتوانى عن استجواب هذا الوزير ولا أرضى بغير إقالته من منصبه لإخلاله الجسيم بواجبات وظيفته. ولكن موقف الدولة الرسمى -حالياً وفى ظل هذا النظام- لا يعبر قطعاً عن مصر الحقيقية أو عن الغالبية العظمى من المصريين، بل هو السبب فى كل ما نمر به من تراجع اقتصادى وسياسى وأمنى واجتماعى، والأهم فيما نمر به من تراجع ثقافى وأدبى وعلمى وفنى. إن مصر ستنتفض وتنفض عنها هذا الغبار لأن التاريخ يؤكد لنا ذلك، فكم مر بمصر من نكسات وكبوات سرعان ما أفاقت منها وانطلقت بعدها إلى النهضة والريادة، وحتماً ستعود مصر الجميلة التى لم يقهرها غزو أو احتلال أجنبى منذ الهكسوس مروراً بالحملة الفرنسية فالاحتلال الإنجليزى. كل من تجرأ على مصر قضت عليه، وما أسهل ما تمر به مصر الآن من ضيق سياسى واقتصادى مؤقت، وما أسهل على هذا الشعب من استعادة حقوقه بل واستعادة مكانته الحضارية، وما أسهل القضاء على هذا الفكر المتحجر الجاهل لتعود مصر لمكانتها الحضارية ولتعود مصر الجميلة التى شاهدتُ نموذجها فى نادى السيارات.