كنت وما زلت أقول إن آفة السينما المصرية طوال تاريخها أن «كل» الناس يكتبون ويتحدثون ويتجادلون فى «كل» الأفلام، مع أن تجاهل فيلم سيئ يعد أحياناً موقفاً نقدياً، والسكوت أمام فيلم جميل ومهم يعد أيضاً موقفاً نقدياً. وقد جربت أكثر من مرة أن أبدأ بالكتابة عن فيلم، لكننى سرعان ما كنت أشعر أن تأثيره انتهى بعد صفحة واحدة، وأحياناً بعد فقرة، فأتوقف عن الكتابة. حدث ذلك مثلاً فى فيلم (آلام المسيح)، الذى أخرجه كاثوليكى هوليوود المتمرد «ميل جيبسون». لم أتذكر منه سوى صورة رجل ضعيف - يفترض أنه «المسيح» - يستسلم لجلّاديه بغرابة مذهلة، ويبدو طوال ساعتين تقريباً مثل الذبيحة. لم أكن مقتنعاً: لا هذا فيلم.. ولا تلك صورة المسيح. فى المقابل.. أشعر أن فيلمىْ أسامة فوزى (بحب السيما) و(جنة الشياطين) يصعب الاقتراب منهما من دون الإشارة إلى سياقهما السياسى والاجتماعى والثقافى.
تصاعدت حملة أقباط مصر ضد (بحب السيما) قبل وأثناء عرضه إلى ذروة لم يصلوا إليها من قبل. كانت الحملة قد بدأت عقب اقتراح من الرقابة على المصنفات الفنية بضرورة إشراك رجال دين مسيحيين فى قرار إجازة عرض الفيلم، وأجيز عرضه بالفعل، وبدعم غير محدود من كافة النقاد والمثقفين. غير أن قساً يدعى «مرقص عزيز خليل»، راعى الكنيسة المعلقة، شن حملة تحريض ضارية ضد الفيلم، متهماً صانعيه بازدراء الديانة المسيحية (مع أن المؤلف والمخرج والمنتج مسيحيون)!. ولم يفوّت القس فرصة لبث دعايته المضادة عبر الصحف إلا واستغلها. وفى كل مقالاته ومداخلاته كان حريصاً على تأكيد الطابع الشخصى لحملته، وأنه لا يمثل الكنيسة ولا يدّعى الحديث باسمها.
أشعل القس مرقص حرباً على صفحات الصحف سرعان ما بدأت تستقطب مسيحيين آخرين داخل مصر وخارجها. وكان من نتيجة ذلك أن تجاسر المستشار نجيب جبرائيل، رئيس محكمة الأحوال الشخصية سابقاً، ورفع دعوى قضائية أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة (اعتبرها البعض عودة إلى دعاوى الحسبة) طالب فيها بوقف عرض الفيلم.. «كونه يخوض فى قضايا دينية تخص الأقباط الأرثوذكس دون الرجوع إلى الكنيسة».
الضربة الثالثة كانت الأقوى، وكانت دليلاً قاطعاً على أن حملة التحريض بدأت تؤتى ثمارها. فقد تظاهر حشد من المسيحيين فى فناء كاتدرائية العباسية، رافعين لافتات لا تعبر فقط عن رفض الفيلم، بل تطالب بتصفية مخرجه ومؤلفه ومنتجه جسدياً، وإشعال النار - إن أمكن - فى إحدى قاعات عرضه، وتؤكد أن أقباط مصر من الآن فصاعداً لن يكونوا «قلة مغلوبة على أمرها»، ولن يسمحوا لكائنٍ من كان أن يتجرأ على عقيدتهم وكنيستهم وشعائرهم.. إلخ.
كل الاحتمالات كانت واردة. لكن الأمر لم يكن يدعو رغم ذلك إلى التشاؤم. فقد أصبح للسينما المصرية أنياب وأظافر بعد أن ظلت لأكثر من مائة عام ناعمة، مسالمة، جبانة، وبلا موقف. وعن نفسى أشعر بكثير من الزهو لأن (بحب السيما) أشعل كل هذه الحرائق، وأرفع القبعة لصانعيه، لأن مجرد وضع كلمة «السينما» فى عنوان الفيلم، واختيارها «بطلاً» لموضوعه، والإلحاح فى حبها ومغازلتها واللهفة عليها كما لو كانت «ثمرة محرّمة».. لا يدل فقط على وعى بأهميتها، بل يرقى بها للمرة الأولى إلى مستوى النقيض لحالة الفاشية التى تسود المجتمع المصرى منذ عقود.
إن الأفلام المهمة لها رهبة، وينبغى أن تكون لها رهبة: فى تلقيها، وفى إعادة إنتاجها نقداً أو حكياً أو جدلاً، لأن الكتابة للسينما وعنها، والكلام فى حقها، والجدل حول وظيفتها، يمكن أن تكون فرصة لاختبار حاجتنا إلى «تغيير ما بأنفسنا» بعيداً عن وصاية هؤلاء الكهنة!. وقيمة (بحب السيما) أنه ليس مجرد نوستاليجيا على غرار (سينما باراديزو)، لكنه اختبار لقدرتنا على تحمل «صورتنا» الحقيقية بكل ما فيها من قبح وعفن وتخلف.
هنا، فى (بحب السيما)، الذى كتبه هانى فوزى وأخرجه أسامة فوزى، والاثنان مسيحيان، يبدو المسيحى مواطناً عادياً وليس «كراكتر». وكانت صورته فى كل ما قدمته السينما المصرية تقبع دائماً فى خلفية الكادر، أو ترفرف مثل طيف!. أب متزمت عقائدياً، لكنه مضطرب وهش. زوجة مقموعة روحياً وجنسياً واجتماعياً، تمارس الجنس مع زوجها كُرهاً، وفى النور على غير عادة المصريين. حماة منفلتة، شتّامة. عاشقان يختلسان قبلة أو حضناً ساخناً. جدة عجوز مدفونة بين دفتى كتاب مقدس. وأخيراً.. أفعال فاضحة فى برج الكنيسة، وخناقة بلدى فى حَرَمها. تلتفت الكاميرا بين حين وآخر إلى نافذة مفتوحة على كورال كنسى يتغنى بتراتيل مبهمة. وفى قلب هذه الفوضى يتحرك طفل شقى، عنيد، مأخوذ بسحر السينما (الطفل يوسف عثمان). يسأل فى كل شىء وعن كل شىء. يضع الجميع فى مآزق، وينصب لهم شراكاً، ويستثمر ضعفهم ونقصهم الإنسانى وزلاتهم الصغيرة لصالحه. يبول على رؤوسهم ويعطى ظهره لنكباتهم. إنه المعادل المبهج لتلك الصرامة المفتعلة، مثلما تبدو السينما معادلاً لتلك «الجنة المفتعلة» التى يبشر بها عالم الكبار. هل لهذا السبب فقط اعتُبر (بحب السيما) فيلماً صادماً وجارحاً؟. ربما. لكن السبب الأهم يأتى من خارج الفيلم. من خارج الجلد الذى أصبح عبر أكثر من نصف قرن سميكاً: الدين دخل فى السياسة، والفقر تحالف مع الكبت، والسينما مغسولة أخلاقياً، والرؤوس محجبة بينما البطون عارية وخاوية. طبقات يركب بعضها بعضاً حتى لم يعد مجدياً أن «تخدش»، بل لا بد أن تكون جارحاً وقليل أدب: «ما بحبكش. أنا دايماً خايف منك. نفسى أحبك زى ما تكون أبويا».. هكذا ينفجر «عدلى» (محمود حميدة) فى حوار فاضح مع الله.
أما (جنة الشياطين) فقد حاولت كثيراً أن أكتب عنه كثيراً دون جدوى. قرأت النص وتدبرته وشاهدت الفيلم كادراً كادراً لعلى أصطاد جوهره، فلم أدرك منه سوى ظلال خفيفة حول «جثة متشرد مسيحى»: خمس وثمانون دقيقة (تسعون مشهداً بالضبط) ونحن نتابع ثلاثة شبان أشقياء، يعبثون بجثة صديقهم «المسيحى» وكأنه لا يزال حياً.
ما الذى يمكن أن يقال فى جدل الحياة (بنزقها وحسيتها) مع الموت (بغموضه وقداسته)؟.
اضطر المخرج إلى إعادة مشهد تغسيل جثة «طبل» (لعب الدور منتج الفيلم محمود حميدة). كان قد استعان فى المرة الأولى بـ«حانوتى» حقيقى، وتبين فى المرة الثانية أنه مات موتاً حقيقياً. هذه الواقعة عمّقت رغبة المخرج فى السخرية من الموت أو «إغاظته». الموت هو الحقيقة الوحيدة «المتخيلة»: مبهمة، وليس ثمة خبرات أو تجارب تدل عليها. «الجثة» هنا تحيل إلى الموت وتدل عليه من دون أن يعنى ذلك أنها تفسره. لذا.. اختار المؤلف أن تكون الرغبة فى السخرية من الموت طفولية حيناً، حسية فى أغلب الأحيان. استبعد الدلالة الميثولوجية لكلمتىْ «جنة» و«شياطين»، لأن تجاورهما ينطوى على مفارقة مستحيلة، واكتفى بـ«نسبيتهما»، أى بما تنطويان عليه من دلالة اجتماعية دارجة: «الجنة» حيث يكون المرء حراً، سعيداً فى حياته، والـ«شيطنة» - أو الـ«عفرتة» - بوصفها شراً طفولياً أو صبيانياً بريئاً.
فى أشد حالات «الشيطنة» براءة.. بدت وجوه الشبان الثلاثة مراوغة، تخفى مزيجاً محبباً من العدوانية والاندفاع الحسى، سرعان ما تطفئهما جدية مفتعلة. خناقاتهم تنتهى بأسرع مما بدأت وبلا خسائر، باستثناء بضع زجاجات بيرة فارغة، ومقاعد فى خمارة. وكان سبب الخناقة تافهاً (فى تقديرنا نحن)، إذ تعثر زبون فى قدمى «طبل» المفرودتين أكثر من اللازم فى باحة الخمارة، رغم أنهم يتعاملون مع الجثة طوال الوقت بوصفها «دمية» أو «دبدوباً»: يتحدثون إليه، ويشركونه فى مشاكلهم وألعابهم الصغيرة، ويسقونه بيرة. وعندما كان وطيسهم يحمى ويبادر أحدهم إلى إخراج «قرن الغزال»، يكتفى باستعراض مهارته فى فتحها من «نطرة» واحدة، خفيفة، «مهوّشاً» الآخر بالتماعة نصلها أمام عينيه.