قد لا أذيع سراً عن أن الشغل الشاغل الآن لأجهزة الدولة البحثية والاستخباراتية والأمنية، هو حصر أعداد كوادر وأعضاء الجماعات الإسلامية والسلفية المصرية الذين غادروا البلاد إلى سوريا بعد ثورة يناير، وتحديداً أثناء حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى للمشاركة فى الصراع «الدينى» المسلح الدائر هناك، ولا يزال، بعد المعلومات المتناثرة عن عودة المئات منهم الفترة الماضية، والجهد الكبير الذى تبذله السلطات الأمنية لمواجهة هذه الظاهرة المؤرقة، سيما أن «القاهرة» لم تكن فقط مصدراً رئيسياً لتوريد هؤلاء «المجاهدين الجدد» ، على طريقة «المجاهدين العرب» الذين شاركوا فى أفغانستان وألبانيا والبوسنة والهرسك فى السابق، وإنما كانت أيضاً محطة تجنيد وعبور رئيسية للراغبين فى السفر إلى الأراضى السورية من بلاد المغرب العربى، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب!
هزائم الجماعات الإسلامية المتطرفة فى سوريا التى كان آخرها معركة حلب الفاصلة دفعت «القاهرة» للاستعداد إلى استقبال هؤلاء العائدين إلى مصر فى الشهور المقبلة وربما الآن، حيث تقدرهم مصادر غير موثقة بنحو 22 ألف إرهابى. سواء عن طريق تسليمهم من السلطات الروسية والسورية، أو من الدول العربية «المتعاونة» مع القاهرة فى هذا الملف، وبعض الدول الأوروبية، وربما من الحكومة التركية فى وقت لاحق!
لا أعرف ما إذا كان لدى الأجهزة الأمنية فى مصر حصر لأعداد المصريين المقاتلين فى سوريا أو حصر لمن قتُل منهم فى العمليات العسكرية ضد الجيش السورى، وهل ما إذا كانت هناك معلومات كاملة أو شبه كاملة عنهم، خاصة أن جُلّهم سافر إلى سوريا قبل أن تستعيد الدولة المصرية عافيتها فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى بعد نحو 5 سنوات من «الفوضى الخلاقة» التى عانت منها البلاد منذ ثورة يناير مروراً بحكم تنظيم الإخوان!
ملف «العائدون» هو هَمّ جديد، وتحدٍّ آخر يُضاف إلى التحديات الكبيرة التى تواجهها دولة الرئيس السيسى الذى يدير البلاد فى أصعب وأخطر فترة تشهدها الدولة المصرية فى العصر الحديث على الإطلاق، ذلك أن الرجل يدفع ثمن توظيف الأنظمة السياسية التى تعاقبت على إدارة البلاد من قبله لهذه الجماعات الدينية المتطرفة منذ ثورة يوليو حتى حكم الإخوان.
ثوار يوليو والرئيس ناصر ألغوا قرار حل جماعة الإخوان الذى كان الملك فاروق قد اتخذه عقب تورطها فى الإرهاب، وعملوا على تضخيمها قبل أن تعود لسيرتها الأولى مع الرئيس ناصر الذى قرر معاداة التنظيم بعد محاولات اغتياله. كادت سياسة الرئيس ناصر أن تقبر التيار الدينى وفى القلب منه الإخوان، بيد أن الرئيس السادات أعطاه قبلة الحياة وأعاده إلى العمل والنشوة والانتشار لتوظيفه واستخدامه حتى صار وحشاً فتك به فى النهاية وسط جنوده وافترسه أمام العالم فى المنصة! ورغم أن الرئيس مبارك رأى بعينيه كيف التهم هؤلاء «السادات» أمام عينيه، إلا أنه استكمل عملية التوظيف البغيضة، ونجح فى عهده التيار الدينى أن يكون جسداً كبيراً بعد أن ترك لهم حرية العمل فى المجتمع والمساجد والنقابات والبرلمان حتى التهم السلطة بالكامل عقب عزله والثورة عليه. فى هذه الأثناء سمحت الأنظمة السياسية للجماعات الإسلامية بالذهاب إلى أفغانستان للقتال هناك، وكانت السلطة تُشجع آنذاك على السفر باسم الجهاد، ثم فعلت ذلك مع الأزمة الألبانية، ثم فى أزمة البوسنة والهرسك وكوسوفا، ثم أخيراً فى سوريا. الآن تدفع الدولة المصرية من أمنها القومى ثمن هذا التوظيف، تدفعه اجتماعياً وسياسياً وأمنياً، ولا أدرى كيف ستتعامل السلطات مع هذه المجموعات التى ستأتى تترى إلى البلاد، لا سيما أن القاهرة دفعت ثمناً باهظاً من قبل مع المدرَّبين على طرق الاغتيال والتفجير الذين جاءوا من أفغانستان وتحديداً مع تنظيم طلائع الفتح الذى تم الكشف عنه بالصدفة البحتة عندما عثرت السلطات الأمنية أوائل التسعينات على نحو ثلاثة آلاف مقاتل إبان الموجة الثانية من حرب الجماعة الإسلامية والجهاد مع الدولة المصرية آنذاك!