هذا أول صلاح جاهين، وهذا آخرى:
أفكر فى الموت كثيراً هذه الأيام. أفكر فيه بوصفه «مكملاً» للحياة.. لا نقيضاً لها، ووالله الذى كمّلنا بـ«نقصنا»: لا هذا تصوف ولا تفلسف ولا تبطر ولا يأس. لا أنا محبط ولا ناقم ولا كاره للدنيا ولا كافر بالنعمة.. بالعكس: مرّنت نفسى -حتى فى عنفوان الرغبة- على أن يكون «الحد الأدنى» بالنسبة لى.. حداً أقصى، فأرحت واسترحت وقفزت على «تفاصيل» الحياة وصولاً إلى جوهرها، فإذا بى أقف وحيداً على حافة الموت. أفكر فيه فضولاً.. لا خوفاً منه. أفكر فيه لأعرفه عن قرب.. لنكون صديقين دائمين، فإذا لم تعجبه صداقتى.. نفترق: هو دائم بطبيعته، وأنا دائم بـ«قيامتى».
أفكر فى الموت كثيراً: لماذا؟.. لكل الأسباب، ولغير سبب.
أتأمل الحياة من حولى فأراها سعياً إلى «الموت»، كأن الموت جوهرها، أو كأن جوهرها هذا لا يكمن فيها.. بل فى لحظة انتهائها.
أتأمل الحياة من حولى فأراها «إبداعاً» جامحاً فى الموت: كنا نفزع مثلاً لـ«رؤية» الموت بالعين المجردة، ونقشعر إذا رأينا جثة، ولا نشعر أحياناً بألم الجرح إلا إذا رأينا دماءنا تسيل. وكنا نعوض حاجتنا إلى «الكمال» بصورة الموت فى أفلام السينما. لكننا أصبحنا ندوس على الجثث ونخوض فى الدم غير عابئين. أصبحنا نتلذذ بحرق الناس وتقطيعهم وتعليقهم فى الخطاطيف أحياء.. كأن الموت شهوة.
أتأمل الحياة من حولى فأراها «نقصاً» لا يكتمل إلا بالموت. كل الذين أعرفهم، وأحبهم بالذات، «يعيشون والسلام». كل الحظوظ متساوية كأوانٍ مستطرقة، وما من أحدٍ إلا معذب بـ«نقصه». هذا مريض يقول مستنجداً وقد اشتد الألم: «يا رب خذنى، أو خذ كل ما أملك وامنحنى بؤس من لا يملك»، وهذا أُتخم بما ملكت يداه فسأل من لا يملك: أين السعادة؟. هذا يحب الحب.. لكنه يجلس وحيداً فى فراغ قلبه، وهذا فاشل فى الجنس يموت بحسرته: «ليت الشباب يعود»، وهذا تعيس فى الزواج يضرب كفاً بكف: إذا كان «شراً».. فلماذا «لابد منه»؟. هذا يقاتل طواحين هواء: «لا ف إيدى سيف.. ولا تحت منى فرس»، وهذا يقتله الطموح: «أنا اللى بالأمر المحال اغتوى»، وهذا موهوب فى «بلد حمضان»: «يا طير يا عالى فى السما.. طظ فيك»!. هذا محبط من حال البلد: «نفخ الأراجيل سأم»، وهذا متدين.. و«الآخرون هم الجحيم»، وهذا «عبد القرش»، بكل ما فى العبودية من سفالة وهوان. هذا.. وهذا.. وهذا.. كلهم متساوون فى «العيش والسلام». كلهم «يكذبون» على أنفسهم وعلى غيرهم لـ«يعيشوا والسلام». كلهم يدركون أن اكتمالهم فى «نقصهم»، أى فى «فنائهم»، لكنهم يكرهون الموت، وأنا كرهت كراهيتهم للموت، فأصبحت أفكر فيه.. وأستعجله. أقول لنفسى قبل النوم: «ليتها تكون نومة الأبد». أسألنى: متى أموت؟. متى تكتمل الدائرة: من التراب.. وإليه أعود؟. ألا يكفى خمساً وخمسين عاماً؟. ما الذى سأفعله فيما تبقى من العمر؟. هل سأجلس على قمة العالم؟. هل سأهبط على الناس برسالة سماوية جديدة؟. هل سأوقف حرباً؟. هل سأمنع ظلماً؟. هل سيسمعنى أحد؟.
أفكر فى الموت وأسأل نفسى: لماذا يخاف الناس منه إلى هذا الحد؟. لماذا يكرهون لقاءه؟. لماذا يفزعون لسيرته؟. أقول لكل من أجادلهم إن الموت «عمر جديد». يقولون: «بعيد الشر»، وأنا لا أفهم كيف يكون الموت شراً؟. كيف نسميه «شراً» ونحن لا نعرفه ولم نعشه أو نجربه؟. لا أفهم لماذا نحزن لموت أحدهم وكأن الحياة لن تكتمل بدونه؟. ولماذا لا «نطلب» الموت إلا إذا كان «رصاصة رحمة»؟.
أفكر فى الموت وأندهش: كلما كثرت الجثث والدماء من حولنا تحول حب الحياة إلى سعار.. إلى هوس.. إلى أنانية قاتلة، بغيضة. يقول جندى فى الحرب: كان إلى جوارى فى الخندق نفسه. يقول ثائر فى الميدان: كان يمسك طرف اللافتة الآخر. يقول عابر طريق: كان يسبقنى بخطوتين. يقول زاهد فى متاع الدنيا: «سلمت ولم يزل.. المسك فى يدى». يقولون: «إنا لله»، لكنهم لا يسمعون صيحة الموت: «وإنا إليه راجعون».
أفكر فى الموت.. وما الذى أفكر فيه وقد بلغت من العمر خمساً وخمسين، وقال الذين سبقونى كل شىء؟!.