هناك شبه اتفاق بين الكتاب والمفكرين المصريين على أن ما يحدث فى مصر تجاه الأقباط لا يمكن وصفه بالاضطهاد، ويحدث قدر من الاختلاف بعد ذلك حول التوصيف الدقيق لواقع الحال، فهناك من يراه تمييزاً، ومن ثم ينبع من سياسات مستقر عليها، وهناك من يراه «تهميشاً» وهو وصف يُعبّر عن سياسات أقل حدة وشمولاً من التمييز. المهم هنا هو الاتفاق بين الكتاب والمفكرين المصريين على وجود مشكلة حقيقية والتوافق على ضرورة التصدى لها ومعالجتها، حفاظاً على النسيج الوطنى وتقوية اللحمة الوطنية. وفى تقديرى أن ما نص عليه دستور البلاد الصادر عام ٢٠١٤ قد وضع بداية جيّدة لمعالجة قصة التمييز أو التهميش بحق المصريين الأقباط، فقد نص على المساواة بين المصريين بغض النظر عن الدين والعرق والطبقة الاجتماعية، وشدّد على مكافحة التمييز بين المصريين، كما نص على إنشاء مفوضية لمواجهة التمييز بين المصريين، وهى المفوضية التى بمقدورها رصد ومعالجة جميع أشكال التمييز فى البلاد، وما حدث هو أن القانون الخاص بهذه المفوضية لم يصدر حتى اليوم فقد كان بمقدور رأس السلطة التنفيذية إصداره بمرسوم، إلى أن يجتمع البرلمان الجديد، وهو ما لم يحدث، مثله مثل قضايا شتى تتعلق بالأوضاع الدينية والطائفية فى البلاد يتسم التحرك بشأنها بالبطء الشديد. وفى تقديرى أننا فى حاجة ماسة اليوم إلى شجاعة اقتحام هذا المجال من أجل وضع علاج جذرى لقضايا التمييز الدينى والطائفية المستشرية فى البلاد منذ عقود على نحو يُعيق ترسيخ مبدأ المواطنة، يكفى أن تنظر إلى الجدل الموسمى حول مدى جواز تهنئة الأقباط بالأعياد والتجاوزات التى تُرتكب فى خضم هذا الجدل.
يُسجل المتابعون للشأن المصرى أن أحوال مصر الدينية والطائفية وصلت إلى مستوى من التدهور الشديد، ابتداءً من مطلع عقد السبعينات، ووصل التدهور إلى الذروة مع نهاية العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، حيث بلغ الاحتقان الطائفى ذروته، وحيث شهدت مصر جريمة نجع حمادى، ومن بعدها تفجيرات كنيسة القديسين، استمر ذلك إلى أن ظهرت بواكير ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، فبدأت الأوضاع فى التغير السريع.
بدأ التدهور فى مصر بمجىء الرئيس الراحل أنور السادات الذى كان قدره أن يخلف رئيساً يتمتع بكاريزما، بحث الرجل عن سند للحكم أو أساس فلم يجد، فى وقت نشطت ضده الجماعات القومية واليسارية فى الجامعات المصرية، ومن ثم قرر ارتداء عباءة الدين، وتشكيل مجموعات إسلامية مسلحة فى الجامعات المصرية لضرب التيارين الناصرى واليسارى، مما زاد من جرعة التدين الشكلى، وحرص على أن يبدو كذلك أمام بسطاء المصريين. نجح «السادات» فى أسلمة المجال العام فى مصر، وتمكن خلال سنوات قليلة من شق صف المصريين، عرّف نفسه بالرئيس المؤمن ومصر بدولة العلم والإيمان ووصف نفسه بأنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، فنشطت جماعات العنف، وواصلت عمليات القتل بحق الأقباط، لا سيما فى صعيد مصر، ومع نهاية عقد السبعينات كانت مصر على وشك الانفجار الدينى، فجاء اغتيال «السادات» على يد الجماعات التى شكّلها، ليحول دون انفجار مصر أو وقوع حرب أهلية أو اشتباكات دموية واسعة النطاق. جاء «مبارك» وحافظ على معادلة «السادات»، لم يغذِّ التشدد الدينى، ولم يواجهه إلا فى ما يخص إبعاد قوى الإسلام السياسى عن دائرة الحكم، حدّد أبعاد المواجهة مع هذه الجماعات فى دائرة الحكم فقط، ترك لهم المجتمع ملعباً، وسلم لهم بالهيمنة على العملية التعليمية وعلى قطاع كبير من العمل الأهلى، كل ذلك كان لهم، ولم يكن يتحرك ضدهم إلا عندما كانوا يقتربون من السلطة فى محاولة للانقضاض عليها. مارس لعبة تقسيم الأدوار مع جماعة الإخوان، حرص على وجودها فى الساحة السياسية وإبرام الصفقات معها، وتقديمها باعتبارها القوة الطاغية التى تمثل البديل الوحيد له ولحكمه، وبما أنها قوة متطرّفة تكره إسرائيل والغرب، فإن حكمه، مهما كانت درجة السلطوية والديكتاتورية يعد مصلحة للغرب، لأن البديل هو حكم المرشد والجماعة. وللحديث بقية.