ما زلنا نحكم من القبور، وما زالت خلافاتنا السياسية تحمل رائحة صراعات تجاوزت الألف سنة، وما زالت كل مناقشاتنا وما زال كل جدلنا غارقاً فى الماضى لا ينظر أبداً إلى المستقبل، بداية من مناقشات تحريم التماثيل وزواج الأطفال حتى منع السياحة الإيرانية وهدم الأضرحة، كلها تحمل توقيع القبر والقهر، ما زلنا ننبش القبور حتى الآن! كل العرب فى الهم سواء وفى انشغالهم بالماضى مخلصون أتقياء، تخيلوا فى سوريا وفى ظل هذه المحنة والسوريون لا يجدون لقمة عيش تسد الرمق تجدهم مشغولين بنبش قبور الصحابة للانتقام فيتحول الاجترار إلى نضال! «نبش قبر الصحابى حجر بن عدى ونقل رفاته إلى مكان مجهول» خبر يحتل المانشيتات وتتأجج به الصراعات، تخيلوا ما هو سبب نبش القبر وإخفاء عظام الجثة؟ السبب هو أن هذا الصحابى الجليل وقف إلى جانب على بن أبى طالب فى «موقعة الجمل» وبايعه ولم يبايع «معاوية» وأدى به هذا العناد إلى قطع رأسه بعد إرساله لـ«معاوية» من قِبل زياد بن أبيه!!، السؤال المنطقى والطبيعى من البشر الطبيعيين «هم لسه فاكرين؟»، وهل ينسى العربى العنيد الشديد ماضيه التليد المجيد؟ هيهات ثم هيهات، سيظل العالم مشغولاً باختراع الكمبيوترات والموبايلات ومحاربة الأمراض بالعلاج الجينى وصعود الفضاء واقتحام آفاق المستقبل ونحن ما زلنا نتصارع حول جثة حجر بن عدى وينبش السنى قبر الشيعى ليصلب جثته ويخرج الشيعى جثة السنى للانتقام منها والتمثيل بأشلاء أشلائه! كل منا ما زال محتلاً بإرث الماضى ودموية خلافاته، ما زال منا من لا يزال يذكر ما فعله الأمويون بقبور شهداء «أحد» وما زال منا من يتهمهم بنبش قبر «حمزة» عم الرسول، وعلى الشاطئ الآخر ما زال البعض مسكوناً بهاجس نبش العباسيين لجثث خلفاء بنى أميه، ولنقرأ بعض هذه الحكايات من «الكامل» لـ«ابن الأثير» الذى يقول: «نبش قبر معاوية بن أبى سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبى سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبدالملك بن مروان فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد فى القبر إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبدالملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه فى الريح، وتتبع بنى أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس)!!، ومن يريد المزيد من نبش القبور والصلب والحرق وتعليق الرءوس فليرجع إلى كتب التاريخ ففيها من هذه القصص البشعة ما يكفى مجلدات، لماذا نحن دوناً عن باقى البشر الذين يسكنون أرجاء المعمورة الأربعة مهووسون بالماضى إلى هذه الدرجة غير عابئين بالمستقبل بتاتاً، وهبطت علينا الطامة الكبرى لتزيد الطين بلة فحكمنا الإخوان بمفهوم الثأر من الماضى من المواطن الذى لا بد أن يتطهر من ذنوب الماضى ليظل يناقش معهم ماذا حدث فى الماضى ويخرج المعارض إما ناصرياً أو زغلولياً أو توت عنخ أمونياً، يعنى كله كوكتيل ماضى فى ماضى.
نبش القبور لدينا لم يعد لعبة ثأر بل صار أسلوب وطريقة حياة، دستورنا يخرج من القبر، فضائياتنا تبث من القبر، أحلامنا تدخل إلى القبر وتدفن فى القبر وللأسف لا تنفخ فيها الروح.