مع اقتراب شم النسيم منذ عشرين سنة، قرأنا خبر وفاة د.جمال حمدان فى ركن منزوٍ بإحدى الجرائد، يقول الخبر: «انفجار أنبوبة بوتاجاز فى دكتور جغرافيا»، كان الخبر مليئاً بالأخطاء المطبعية والعلمية أيضاً وبدون صورة فوتوغرافية واحدة، والسبب فى منتهى البساطة أن المحرر كان لا يعرف من هو جمال حمدان، وكان الأرشيف الصحفى لا يحتفظ إلا بصور «المهمين VIP».. ذوى الحيثية من رجال البلد، وبالطبع لم يكن الدكتور جمال حمدان من ضمن هؤلاء المهمين، وبالطبع لم يلتفت التليفزيون لخبر وفاته، بينما أذاع خبراً عاجلاً عن مشكلة الملعب المحايد الذى سيلعب عليه الإسماعيلى والأهلى مباراة نهائى الدورى، وفى نفس يوم وفاته كانت نادية الجندى تستعد لفيلمها الجديد، ووزارة الصحة تعلن عن نجاح حملتها على تجار الفسيخ، و الحكومة تعلن عن نجاح خطتها فى الخصخصة، وإسرائيل تبدى ارتياحاً لمسيرة السلام، ومسئولو الجمارك يرفعون الحظر عن الكافيار والسيجار الكوبى، ووزير التربية والتعليم يدلى بتصريحات عن استعدادات الوزارة لامتحانات نهاية العام، وماسبيرو على قدم وساق استعداداً لليالى التليفزيون، والمفكرون يبحثون تأثير الفيديو كليب على الشباب، والمثقفون من فئة تجار الشنطة يحزمون حقائبهم على مهرجان خليجى ثمين، و الضرائب تتصالح مع الراقصة فلانة التى وافقت على دفع مليون جنيه، و المودعون فى الريان، وفلاحو العراق ما زالوا فى رحلة البحث عن فلوسهم الضائعة، وبواب العمارة رقم 25 شارع أمين الرافعى بالدقى يقتحم شقة جمال حمدان فيجده ملقى على أرضية المطبخ وقد تفحم نصفه الأسفل تماماً.
إنها أنبوبة بوتاجاز قضت فى ثوانٍ على مشروع ذلك الراهب العملاق، الذى اعتزل الناس ولكنه لم يعتزل الحياة، فقد كان يؤمن بمقولة سارتر: «الجحيم هم الآخرون»، فاختار العزلة فى بيته المتواضع حيث الدولاب المتهالك، والسرير السفرى، والترابيزة المختفية تحت ركام الكتب، وبوتاجاز المصانع الحربية، والراديو والترانزيستور وسيلته الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجى، فقد كان رافضاً للتليفون والتليفزيون.
كانت هذه هى مفرداته المعيشية، أما مفرداته الفكرية فقد كانت باتساع العالم كله، ونستعير هنا لغة الجغرافيا التى علمنا جمال حمدان عشقها المزمن، فهو إنسان بلا حدود جغرافية واضحة فيه من صفات الوادى مداه اللانهائى، وفيه من الغابة أحراشها المتشابكة المعقدة، وفيه من النيل فيضانه، و فيه من الجبل شممه وإباؤه، يحنو كما يحنو النيل على أبنائه بالخير ويثور أيضاً كما يثور النيل حافراً مجراه نحو الغاية والمصب، وجهه الجرانيتى لا تستطيع أن تخطئ مصريته بلونه الأسمر المتشرب بطمى النيل وأنفه البارز وعينيه المكحلتين وشعره المجعد ووجنتيه المتحديتين وكأنهما نحتتا بأزميل فنان فرعونى قديم، لم تستطع نظارته السميكة أن تخدعنا وتخفى هذه الملامح المصرية، بل على العكس فهى قد وضعتها فى البرواز، فبدت وكأنها ملامح فلاح مصر الفصيح الذى صناعته الخلود وقدره أن يظل مظلوماً إلى الأبد.