تمثل انتخابات الرئاسة المصرية إحدى اللحظات الكاشفة فى مسار معقد تتحرك فيه العلاقات المصرية - الأمريكية منذ قررت واشنطن التخلى عن الرئيس السابق، حسنى مبارك، أحد حلفائها التقليديين فى الشرق الأوسط. ينبع ذلك التعقيد من عاملين هما: التدفق غير المسبوق الذى يشهده فضاء السياسة المصرية من قبَل تيارات وقوى مختلفة غير ناضجة، سواءً فى تعريف ذواتها أو فى مواقفها السياسية؛ وعدم اكتمال -بل وتعثر- عملية البناء المؤسسى والدستورى لهيكل الحكم الجديد.
تحاول الولايات المتحدة اكتشاف أبعاد هذه الحالة الضبابية لواقع السلطة والمشهد السياسى فى مصر، وتحديد أى الأطراف أجدر بالتعامل معه، ووفق أى آلية، بناءً على ما يمكن أن يتبناه كل طرف من توجهات، إضافة إلى وزنه النسبى فى النظام الجديد. من شأن المعطيات السابقة بجوار فكرة مراجعة العلاقات مع الولايات المتحدة التى تسود خطابات المرشحين، أن تدفع واشنطن إلى إجراء مراجعات أساسية لعلاقاتها مع مصر، سواءً باتجاه بناء توافقات استراتيجية جديدة تقتضى تغييراً فى عناصر مهمة فى سياستها الإقليمية، أو باتجاه احتواء مصر الجديدة، بل وربما الصدام معها، فى حال عجز الطرفين عن بناء توافقات استراتيجية جديدة.
فى ظل هذه المستجدات تبدو الولايات المتحدة حذرة فى تحديد موقف علنى، يفضل مرشحين بأعينهم، أو يعارضهم، وإن كان ذلك لا يمنع سعيها للتواصل مع أصحاب الفرص الأكبر للوصول للرئاسة. يتضح ذلك من الاتصالات التى أجراها الأسبوع الماضى رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ الأمريكى، السيناتور جون كيرى، خلال زيارة -استكشافية بامتياز- إلى مصر، حيث التقى مرشحيْن رئاسيين هما عمرو موسى، ومرشح جماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسى.
ويكشف التباين الواسع بين توجهات الرجلين حالة عدم اليقين التى تسيطر على ذهن صانع القرار الأمريكى بشأن المرشح، أو حتى التيار، الأكثر احتمالية للفوز بتلك الانتخابات. ويتبين عدم اليقين كذلك فى التغطية الإعلامية الأمريكية لمرشحى الرئاسة، سواء فى عدم حسم أى مرشح أو تيار هو صاحب الغلبة، أو فيما يتعلق بتقييم توجهات بعض المرشحين. ويبرز ذلك خاصةً فى شأن المرشح عبدالمنعم أبوالفتوح، بين من يعتبره ليبرالياً (نيويورك تايمز) أو شبه ليبرالى (وول ستريت جورنال)، ومن يعتبره يعكس توجهاً دينياً راديكالياً (ذا نيو ريبابليك).
ولا يعنى ما سبق أن واشنطن بعيدة بالكلية عن مجريات عملية انتخاب الرئيس المصرى القادم، فقد فسر البعض تأكيدها حصول والدة المرشح الإسلامى حازم أبوإسماعيل على الجنسية الأمريكية -فى رد على استفسار لجنة الانتخابات الرئاسية المصرية- بأنه مؤامرة ضد هذا المرشح. وإن كنا نظن هذا التفسير خاطئاً، فإنه يعكس التوظيف الانتخابى للموقف الشعبى من الولايات المتحدة. إلى ذلك يمكن افتراض أن استعداد واشنطن للتواصل مع الأطراف المختلفة بما فى ذلك الإخوان المسلمين من خلال لقاءات مسئولين أمريكيين بأعضاء من حزب «الحرية والعدالة» فى القاهرة، أو استقبال وفد إخوانى قام بزيارة «علاقات عامة» إلى واشنطن، عاملاً محفزاً للجماعة على التقدم بمرشح للرئاسة، إدراكاً منها لعدم وجود تحفظ أمريكى مبدئى على هذا الخيار، وأن المحدد للعلاقة فى ظله سيكون مدى التوافق حول السياسات وليس المرجعيات. وأخيراً، فقد أشارت السفيرة الأمريكية فى القاهرة، آن باترسون، إلى مساعدة فنية أمريكية للجنة الانتخابات الرئاسية المصرية.
إذن المؤكد أن الجهد الأمريكى لا يتركز الآن فى التأثير المباشر على نتائج الانتخابات الرئاسية، وإنما على إجراء اتصالات استكشافية مع كافة المرشحين بهدف الاستعداد لبدائل مختلفة، بل وحتى متعارضة، فى مرحلة ما بعد الانتخابات. ولا يعنى ذلك قطعاً استبعاد تضمين تلك الاتصالات مع المرشحين المختلفين حوافز ترغيب أو تهديدات ترهيب؛ تربط توظيف عناصر القوة الأمريكية الهيكلية فى علاقاتها مع مصر بتوجهات الرئيس الجديد الفعلية من المصالح الأمريكية فى مصر والمنطقة. وأوراق واشنطن عديدة فى هذا السياق، منها: ملف العلاقات المصرية-الإسرائيلية؛ والعلاقات العسكرية المصرية-الأمريكية؛ والتأثير على حلفاء واشنطن الدوليين والعرب إما باتجاه الضغط على مصر أو دعمها، سياسيا واقتصاديا.