هذه السيدة أبكتنى.. فهذا عصر بكاء. لا كلام ولا فعل ولا فكرة ولا موقف ولا حلم. لا ماضٍ ولا حاضر ولا أمل فى مستقبل. هذا فقط عصر بكاء. عصر نواح ولطم و«طق حنك» كما يقول أشقاؤنا فى «الشام» وفى المصيبة. عصر شتائم بـ«مرجعيات».. لا تميز بين الهوى والمقدس.
فيديو لقيط على «فيس بوك»، هو الوجه الآخر لفيديو جنودنا السبعة وهم بين أيدى أحط وأسفل من أنجبت مصر. ثمة حشد من البسطاء المطحونين، فى مكان ما (أظنه إحدى مدن الدلتا). شبان وشيوخ وأبواق «إخوان» مزعجة. الكل يتحدث والكلام شظايا، لكن الموضوع واحد: «مصر التى ابتليت فى رئيسها»، وفى قلب هذا الـ«هايد بارك» تتمركز سيدة محجبة، بين الخمسين والستين من عمرها. قصيرة نوعاً، ممتلئة نوعاً، وترتدى نظارة طبية: أظنها أحق بلقب «سيدة مصر الأولى». تتحدث بصوتها وجسمها، وتلوح بيمناها فى وجوه الواقفين، وبين الحين والآخر تعدل الطرحة على كتفها.. وتستأنف. تتحدث بحرقة ونفاد، والكلام على استقامته: لم يكن كلاماً والسلام، بل رصاص بندقية. تشق الحشد بـ«جملة» طاغية، نصفها طين الواقع ونصفها بخار الندم والحسرة: على مصر حيناً، وعلى اختيار «مرسى» حيناً آخر. تقترب وتبتعد. تروح وتجىء فيما لا يزيد على المتر المربع، كأنما دخلت مشهداً عابراً ولا تريد أن تخرج منه إلا «بطلة». تسد عين الكاميرا بوجهها، فهى لم تكن «تمثل» ولا تعرف أصلاً أن ثمة «كاميرا»، ثم تستدير إلى شأنها، ثم تعيدها كلمة شاردة إلى صدارة المشهد.. وكان الواقفون يجمعون «فوارغ» الحوار، ثم يعبئونها ولسان حالهم: «أخطأ عمر.. وأصابت امرأة».
لن أعقب على كلام هذه السيدة، فكلامها أقوى وأصدق من كل ما كتبت أنا وغيرى. هى المالك الحقيقى لهذا البلد، وهى بطلة العرس والفاجعة، فلا معقب عليها.
قال مأجور أو مضحوك عليه: «الناس هى اللى اختارتهم»، يقصد «الإخوان» بالطبع. لم يقل سوى هذه الجملة، لكنه نخز جرحاً طرياً فيما يبدو، فـ«طرطش» الجرح رذاذاً صاعقاً فى وجهه. قال عجوز: «إنت مش فاهم حاجة»، وقال شاب «وارم ومبقوق»: «كل ما يتكلم يقول أهلى وعشيرتى.. خلاص.. الواحد اتخنق»، ثم فاصل ضجيج وأصوات استياء: «تاجر.. تاجر دين». هنا.. تنبثق السيدة: «الدين متبرى منه ومن أمثاله.. إيش عرفه بالإسلام والدين!.. ويقولك اللى حيتكلم حاقطع صباعه واجيب خبره.. إحنا واقفين له فى الشارع.. يجيب خبرنا من ست لراجل».
تعدل الطرحة وتولى مدبرة، ثم تعود كأنها تذكرت شيئاً: «يا خسارة يا شبابنا ويا خسارة يا ولادنا.. البلد دى عايزة الناس اللى قامت فى ثورة 19.. هى اللى تلمهم.. 52 والفلاحين (تقصد ثورة يوليو).. الرجالة الصح.. مش اللى قاعد على كنبة يتفرج على التليفزيون.. ويقولك بتتفرجى على السى. بى. سى. إحنا بنتفرج على الدنيا والحياة اللى مرمطتنا وذلتنا على إيد مرسى اللى بيتكلم باسم الدين».
يسألها شاب من خارج الكادر: «ما اتذليتيش قبل كده؟».. فترد بثقة: «لا ما اتذليتش قد الذل اللى اتذليته دلوقتى.. إخص على الرجولة اللى ماتت تحت جزمة مرسى.. عايزين يوطوا يبوسوا إيديه.. عمر ريس ما حد باس إيديه.. اللى بيشبهوه بجمال عبدالناصر.. إمشى.. إيه اللى جابه لجمال عبدالناصر!.. ده ما يسواش مسمار فى جزمة عبدالناصر».
عندئذٍ بكيت.. وعادت تقول: «جمال عبدالناصر اللى خلى البلد لها قيمة، وخلى لكل واحد كرامة، وخلى لكل فلاح قيمة، والعامل له قيمة، والفقير له قيمة».
وكان فى بكائى لذة.. إذ أدركت أننى كنت وما زلت على صواب: «مصر أحوج ما يكون إلى.. . جمال عبدالناصر».