مسيحيو العريش يروون تفاصيل لحظات الرعب: لولا الإرهاب ما خرجنا
أسرة قبطية غادرت العريش واستقرت بالكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية «أ.ف.ب»
ما بين الارتباط بالأرض والجيران والذكريات، والخوف من مصير مجهول يخيم عليه شبح الموت، اضطرت عشرات الأسر المسيحية إلى ترك منازلهم فى مدينة العريش، بعد أن طالت يد الإرهاب الغادر عدداً من أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم، الذين قضوا نحبهم قتلاً أو ذبحاً أو حرقاً، ليفسح المجال أمام الخوف والقلق ليطرق قلوبهم، ولا يترك لهم خياراً سوى الفرار بأبنائهم إلى المحافظات المجاورة، يواجهون مصيرهم المجهول، تاركين كل ما يملكون وراءهم، استجابة لدعوة أطلقتها الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية.
وبدأت مشاعر الخوف تتملك قلوب المسيحيين فى العريش، عندما استيقظوا على خبر مقتل «جمال توفيق»، الذى كان يعمل مدرساً وتاجراً بسوق «العبور»، نتيجة إطلاق النار عليه أمام المارة داخل سوق الخضار، مما أثار حالة من الهلع والرعب بينهم، الأمر الذى دفع «المقدس شحاتة حنا نسيم»، الذى يعمل هو الآخر بائعاً بسوق الخضار، إلى الفرار بأسرته المكونة من 7 أفراد، من منزلهم ليلاً، خاصةً أنه تلقى تهديدات من الجماعات التكفيرية.
«عايدة»: «قتلوا زميل زوجى فى السوق فقلت أنفد بجلدى».. و«جمال»: «طلعت بملابس البيت وسلكت طريقاً وعرة للهرب بأسرتى»
وعبرت «عايدة سمير رزق» زوجة «شحاتة»، عن الهلع الذى سيطر على أسرتها بقولها: «زميل زوجى اغتيل وهو يرعى أكل عيش أبنائه وكان الدور على زوجى، فقررنا الهرب ليلاً»، وأضافت: «خرجنا بملابسنا وتركنا كل ممتلكاتنا»، وعن أسباب مغادرتهم منزلهم قالت: «كيف يمكننا أن نستقر داخل بيتنا ونحن مهددون بالقتل والحرق والتمثيل بجثثنا، وهو ما أجبرنا على الرحيل»، وتابعت: «جئنا إلى الإسماعيلية فى ظروف بمنتهى الصعوبة، كل لحظة كانت تمضى علينا فى الطريق، كنا ننتظر موتنا أو قتل أولادنا، إلى أن وصلنا للإسماعيلية، وتوجهنا إلى الكنيسة الإنجيلية، التى استقبلتنا وفتحت أبوابها أمامنا، وما زلنا ننتظر المساعدة لتدبير منزل وفرشة ولقمة عيش لأبنائنا».
ولم يكن مقتل «جمال» هو السبب الوحيد فى زرع بذور الخوف داخل قلوب المواطنين المسيحيين بشمال سيناء، ولكن جاء مقتل «سعد حكيم حنا»، 70 سنة، وابنه «مدحت»، داخل منزلهما ليلاً، وحرق جثتيهما فى مشهد يفتقر إلى أدنى المعايير الإنسانية، ليفاقم مشاعرهم بالخوف والقلق على حياتهم وحياة أبنائهم، وقالت «عايدة» إن «الهرب إلى الإسماعيلية كان هو الحل النهائى والقرار الأخير»، واستطردت: «طلعنا بهدومنا، والله ما أخدنا فى إيدينا إلا أولادنا وبس»، وشددت على قولها: «نريد حلاً أمنياً قوياً، لقد ازدادت الأوضاع سوءاً، والإرهابيون أصابهم خلل عقلى بعد محاصرة الجيش لهم».
أما «فيبى صليب» فقالت: «لقد دق الخوف قلبى بعد توالى عمليات القتل»، مشيرةً إلى واقعة تصفية الطبيب البيطرى «بهجت وليم زاخر» فى وضح النهار، أثناء خروجه من عيادته، وأضافت: «تلقينا تهديدات بقتل ابنى، الذى يعمل فى مشروعات تابعة للجيش بإعمار سيناء، هددوه بقولهم: لو مابطلتش شغل هندبحك، ابنى كان بيصرف علينا، وفاتح البيت مع أبوه وإخواته، لكن لغاية التهديد العلنى ماقدرتش أتحمل، وهربنا من البلد»، واختتمت بقولها: «حسبى الله ونعم الوكيل فى كل ظالم وكافر، يا رب ردنا بقوتك إلى منازلنا سالمين منصورين».
«لولا الإرهابيون أخرجونا منها ما خرجنا»، بهذه الجملة عبرت «صابرين وليد عطية»، فى حديثها لـ«الوطن»، عن حالة القلق التى تتملك مئات المسيحيين فى العريش، وقالت: «سبنا حالنا ومالنا وكل ما نملك، علشان ما أدوقش مرارة مقتل حد من أولادى أو زوجى، فكان القرار أن نغادر إلى الإسماعيلية، هرباً من الأوجاع»، وأضافت أن «خبر مقتل كامل رومانى أمام منزله، وحرق المنزل، كان بمثابة الصدمة، مما اضطر أولادى إلى الانتقال للإسماعيلية للإقامة فى منازل أهالى زوجاتهم، بينما أتيت أنا وزوجى إلى الكنيسة، حتى يقضى الرب أمراً».
«ميرفت»: «تركت كل ما أملك حرصاً على حياة أولادى».. و«مارينا»: «مستقبلى ضاع عايزة أرجع العريش وأكمل تعليمى»
وروى «جمال عزيز عياد»، موظف بشركة المياه والصرف الصحى، ملابسات قراره بالفرار من منزله برفقة أسرته المكونة من 5 أفراد، هم زوجته وطفلة عمرها 6 شهور، وبنت عمرها 13 سنة، وشاب فى الـ16 من عمره، بقوله: «الرعب ملأ قلبى بعد مقتل عادل شوقى وغيره بالنار، ودخول التكفيريين إلى منازل المسيحيين بعد رصدهم.. وصل الحال بى إلى أن وضعت أنابيب البوتاجاز خلف باب الشقة، وقلت: لو دخلوا علينا البيت هافجر نفسى وأفجرهم، المهم أولادى محدش يلمسهم، وفى المساء، خرجت بالترنج اللى عليا، اتفقت مع صديق على الخروج من البلد، شُفنا الويل فى الطريق، بعد ما غيّرنا خطوط السير، جيت هنا من غير أى ترتيب، بنتى هتموت على مستقبلها ومدرستها اللى سابتها، لكن ما باليد حيلة»، ووجه مناشدة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى للتدخل، ووضع حلول جذرية لهذه التهديدات التى تستهدف المسيحيين، قائلاً: «أصل مغادرة الأرض شىء مؤلم ومرير».
وأضافت «ميرفت أديب» بقولها: «خرجت من بيتى ما أخدتش معلقة، قلت أنفد بنفسى أنا وأولادى»، مشيرة إلى أن لديها 3 أبناء، أصغرهم طفلة لم تتجاوز شهرها السادس، وتساءلت بقولها: «ذنبها إيه تكبر فى ظروف مرعبة؟»، وأكدت أن الأسرة اضطرت إلى اتخاذ قرارها بالفرار حرصاً على حياتهم، ووصفت القرار بأنه «أصعب وضع مريت به فى حياتى كلها، أن تفرض علينا ترك بيوتنا وناسنا وتراب حفظنا خطوته».
والتقت «الوطن» عدداً من الأطفال الهاربين من الموت مع أسرهم، داخل طرقات الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية، ومنهم «أرينى ماهر»، 9 سنوات، و«مينا سامح محرز»، 10 سنوات، و«جون أسامة»، 9 سنوات، و«هبة أسامة»، 12 سنة، و«كورولس إيهاب»، 10 سنوات، حيث أعربوا عن قلقهم إزاء الأوضاع المأساوية التى يعيشونها، بقولهم: «إحنا كده مش هنعرف نعيش، دى مش عيشة، العيشة جوه البيت ومع الجيران، خايفين نموت من غير ما نكبر ونحقق أحلامنا، ساعات كتير أهلنا لا يتركوننا نذهب إلى المدرسة، بيخافوا علينا نتقتل، مع أن الحكومة بتدخل عندنا وتفتش، والجيش موجود، بس هو الوضع كده، صعبان علينا أصحابنا المسلمين أوى إللى خبونا جوه بيوتهم عشان مانموتش، كنا بنسهر عندهم طول الليل، لكن ماكانش ينفع نتسبب ليهم فى أذى، وعندما قرر أهلنا نمشى مشينا».
الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية تستقبل 70 أسرة وتطلق حملة تبرعات عاجلة بمشاركة رجال الأعمال والكنائس الأخرى
وبينما أعرب «مينا» عن أمله فى أن يكمل تعليمه ليصبح ضابطاً بالقوات المسلحة، وتحدثت «مارينا جمال»، 14 سنة، بينما كانت تغالبها الدموع، بقولها: «أنا حزينة ومخنوقة أوى إنى سِبت المدرسة والدراسة، كان نفسى أكمل مذاكرتى ودروسى، كان نفسى أوى أنجح وأدخل الثانوية العامة، كان نفسى أكون دكتورة فى مستشفى العريش، ده كل حلمى، أنا فين دلوقتى؟، فين ملف الدراسة؟، هتعلم فين؟، مين هيجبلى أوراقى؟».
ومن جانبها، أكدت «ألين عبدالمسيح»، خادمة بالكنيسة الإنجيلية فى الإسماعيلية، أن الكنيسة استقبلت، حتى يوم أمس 25 أسرة مسيحية تركوا منازلهم فى العريش، وفى انتظار توافد 35 أسرة أخرى، معتبرة أن «هناك اضطهاداً واضحاً للمسيحيين على أرض العريش بشكل خاص، دون تحرك واضح من الجهاز الأمنى»، بحسب قولها.
أما «نبيل شكرالله»، مسئول الكنيسة الإنجيلية، فقال: «بدأنا نستقبل عدداً من الأسر المسيحية، وتلقينا تعليمات من القس نجيب خليل فريد، راعى الكنيسة، وطالبنا بتجهيز الكنيسة على أعلى مستوى لاستقبال الوافدين»، مشيراً إلى أنه من المتوقع أن يرتفع عدد الأسر المغادرة إلى الكنيسة لأكثر من 100 أسرة، وأضاف أن الكنيسة تجرى اتصالات مباشرة مع محافظ الإسماعيلية، اللواء يس طاهر، لتوفير أماكن بديلة لإيواء تلك الأسر، لافتاً إلى الحاجة الملحة لإطلاق حملة عاجلة لجمع تبرعات مادية وعينية لمساعدة المسيحيين الفارين.
ومن جانبه، أعلن «القس زكريا غطاس»، راعى الكنيسة «المعمدية» بالإسماعيلية، أن الكنيسة استقبلت ما يقرب من 70 أسرة غادروا منازلهم بالعريش، وتم تسكين ما يقرب من 70 أسرة، بالتواصل مع عدد من الكنائس المختلفة، وعن طريق التواصل مع عدد من رجال الأعمال، حيث تم توفير وحدات سكنية داخل مدينة «المستقبل» وفى منطقة «هدى شعراوى»، وأضاف أنه يجرى استكمال حصر الأسر الموجودة بالفعل.
وتساءل مصدر رفض ذكر اسمه، عن دور «مركز الإغاثة» التابع لهيئة قناة السويس، الذى تم افتتاحه فى 13 يناير 2015، مشيراً إلى أن رئيس هيئة القناة، الفريق مهاب مميش، كان قد أكد أنه سيتم الاحتياج الضرورى لمركز الإغاثة فى وقت ما، ولابد أن تكون المحافظة جاهزة لذلك فى أى وقت، وأضاف المصدر أنه «قد حان وقت استخدامه الآن»، ويمكن لمركز الإغاثة استيعاب نحو 730 شخصاً، حيث يشمل 45 «كرافان» إعاشة، و500 خيمة، و360 سريراً، ومزود بأكثر من 6 آلاف بطانية، و10 دورات مياه مجهزة، ووحدة إطفاء وإسعاف.
ومن جانبه، أكد محافظ الإسماعيلية أن «ما حدث أن مجموعة من الأسر استجابت لدعوة الكنيسة، وتم استيعابهم بالكامل داخل عدد من المنازل ونزل الشباب»، مؤكداً أنه لم يتم التأكد من حقيقة أسباب تلك الدعوة حتى الآن، كما أكد أنه ليست هناك حاجة ملحة فى الوقت الراهن لفتح مركز الإغاثة التابع لهيئة قناة السويس، حيث يتم استيعاب الأسر التى تركت منازلها فى شمال سيناء بأماكن وفَّرتها لهم الكنيسة، أو بالإقامة لدى أقاربهم.